كيف نصنع القارئ الصغير: قراءة نقدية في كتاب أدب الطفل والناشئة للدكتور إبراهيم الكوفحي
الدستور-آية أسعد
ليس كل ما يُكتب للأطفال أدبًا، وليس كل من يكتب لهم يدرك أسرار هذه الفئة العمرية الدقيقة، بما تحمله من براءة مشتهاة، وتوق داخلي لمعانقة العالم. من هنا، تتبدى أهمية هذا الكتاب الذي لا يقدّم لنا أدب الطفل والناشئة على أنه مجرد لون من ألوان الإبداع، بل بوصفه خطابًا ثقافيًا وإنسانيًا بالغ الأثر في صناعة المستقبل، وتشكيل الوعي، وبناء الإنسان من لبناته الأولى.
ومؤلف هذا العمل الدكتور إبراهيم الكوفحي، الشاعر والناقد والأستاذ الجامعي المعروف، وعضو رابطة الكتّاب الأردنيين، وهو صاحب تجربة طويلة في تدريس الأدب والنقد، وباحث متخصص في أدب الطفل وقضاياه.
في هذا الكتاب، ينقلنا الكوفحي من التأمل إلى التطبيق، ومن التنظير إلى الممارسة، ضمن مجموعة قراءات استطلاعية تتناول واحدًا وثلاثين عملًا قصصيًا وروائيًا موجّهًا للأطفال والناشئة، منتقاة من أقطار عربية شتى، عاين فيها المضمون والأسلوب واللغة، وحاور النصوص نقديًا وجماليًا، كاشفًا عن تنوّعها ومستوياتها الفنية والتربوية، كما يتميّز هذا الكتاب – فضلًا عن مادته الغنية – بكونه يستند إلى تجربة شخصية عميقة، بدأت من تفتّح الوعي بأهمية هذا الأدب عبر الاحتكاك بروّاده، ثم ترسّخت عبر الممارسة الأكاديمية حين أُسند إليه تدريس مقرر «أدب الأطفال: لغته وأساليبه» في الجامعة الأردنية، وهو ما أتاح له الإحاطة بجوانب هذا الفن نظريًا وتطبيقيًا، فضلًا عن تفاعله المباشر مع إقبال الطلبة وتفاعلهم مع هذا المجال الحيوي، ولا يجد القارئ في الكتاب مجرد عرض انطباعي، بل قراءة منهجية تتكئ على أدوات علمية رصينة، تجمع بين الفهم العميق لطبيعة النص الأدبي، والوعي بمقاصد هذا الأدب ووظيفته التربوية والنفسية والجمالية. كما تتيح هذه القراءات رؤية بانورامية متنوّعة لما يُكتب اليوم للطفل العربي، من جهة الموضوعات والأساليب، والقدرة على الإثارة والتأثير، فضلًا عن إحاطتها بالفوارق الثقافية واللغوية، وقد اختار المؤلف واحدًا وثلاثين عملًا أدبيًا تمثّل تجارب أدباء من أحد عشر بلدًا عربيًا، هي: فلسطين، والإمارات، والأردن، والسعودية، وهذا يدلنا على حرصه الواضح على التنوع الجغرافي والفني والموضوعي. وقد جاءت هذه النصوص مختلفة من حيث الموضوعات و التقنيات والأساليب والأهداف، مما منح الدراسة أفقًا واسعًا للقراءة المقارنة والتقييم النقدي، تركّز القراءات على فنين اثنين من فنون أدب الطفل هما: القصة القصيرة والرواية، إذ يتناولها المؤلف من ناحية المضمون التربوي، والبنية الفنية، والأسلوب اللغوي، ساعيًا إلى إبراز ملامح الجودة أو مكامن القصور، كما يعمد إلى الكشف عن مدى ملاءمة هذه النصوص للفئات العمرية المستهدفة، استنادًا إلى خصائص النمو العقلي واللغوي والنفسي لهذه الفئات، ومن القصص التي تحدث عنها، قصة»حلم صغير» للكاتب البحريني إبراهيم سند، فقد كان أسلوب الكوفحي في عرض هذه القصة بأسلوب تحليليًا رصينًا، يجمع بين العمق والوضوح، فجاءت قراءاته للنص سلسة في عرضها، دقيقة في تفكيكها، بعيدة عن التعقيد، قريبة من القارئ، دون أن تُفرّط في الصرامة النقدية أو تغفل البعد الفني والتربوي في آنٍ معًا.
ويمثّل هذا الكتاب مرجعًا مهمًّا لكل مهتم بأدب الطفل، من كتّاب ونقّاد ومربّين، لما يقدّمه من أدوات تحليل عملية تسهم في تعزيز الوعي النقدي تجاه النصوص الموجهة للطفل، وتساعد في اصطفاء الأعمال المناسبة تربويًّا وفنيًّا، بعيدًا عن المزاجية والانطباعية، وبما يخدم بناء جيل قارئ، واعٍ ومبدع.
ويسجل إلى وزارة الثقافة الأردنية دعمها لهذا العمل القيّم، وحرصها على إتاحته ضمن سلسلة إصداراتها التي تنهض بالذوق العام وتعزز حضور الأدب الهادف في حياة الأسرة والمجتمع. وإنّ كتاب «أدب الطفل والناشئة» لمؤلفه الكوفحي ليس مجرد دراسة نقدية، بل هو دليل نقدي يُنصح به كلّ أبٍ وأمٍّ، وكلّ مربٍّ حريص على أن يضع بين يدي طفله أدبًا راقيًا، يواكب حاجاته الفكرية والنفسية، ويغذّي خياله، ويُسهم في تنشئته على القيم والجمال والمعرفة.