عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    01-Feb-2019

»رواية الفصول الأربعة« لباسم الزعبي.. قلق المثقّف إزاء التّحوّلات الاجتماعيّة

 

د.أسماء جاداالله سالم
الراي - تتكوّن مجموعة «رواية الفصول الأربعة» للكاتب د.باسم الزّعبيّ، من اثنتين وثلاثين قصّةً مؤثرةً واقعيّةً نقديّةً بكلّ ما فيها؛ إذ تنتقد الهشاشة والضّعف والانتكاس والتّخلّف والثّرثرة والتّسلّق والظّلم والقهر والإرهاب والعدوان والتّشظّي والتّشتّت، وتختلط بالهموم والأزمات والمأساة والمعاناة والأحلام الثّوريّة وطلب الحياة، مع صدق الدّفاع عن قيمٍ إنسانيّةٍ مستلبة والتّحيّز لها، وكشْف صور الفقر والخراب والدّمار.
وتلقي المجموعة الصّادرة عن «الآن ناشرون وموزّعون» (2018 ،(الظّلال على واقعٍ عربيٍّ مأزوم، كما توحي بدلالات التّضحية والفداء، والتّهميش والظّلم، والكدّ والشّقاء، والتّشتّت والضّياع والحلم، وأثر العاملين الزّمانيّ والمكانيّ على الأحداث والشّخوص والرّؤى؛ فالعوامل التّاريخيّة محرّكةٌ للأحداث ومشحونةٌ بالصّراع السّياسيّ مع الاحتلال والاستبداد، متناولةً بذلك قضايا إنسانيّةٍ وسياسيّةٍ واجتماعيّة.
ولا يعني وقوف الكاتب في قصصه على البؤس والحرمان، والقمع والاضطهاد والعدوان، والآلام والأحزان، أنّه لا يسعى إلى الأفضل أو يحلم به على الأقلّ؛ فقد حاول الفرار إليه، وأومأ إلى الرّغبة في تغيير الوضع العربيّ الرّاهن الذي بات مزرياً، إلى حدٍّ يحمل على الحلم بالتّخلّص من الشّعور بالوهن، والتّحرّر من صور الاستبداد، وبعْث العافية والفاعليّة، حتّى تستعيد الأوطان وحْدتها وربيعها وقيمتها.
إنّ المجموعة بلسانها السّياسيّ الواعي تصرخ: إمّا أن نكون أو لا نكون. وأن علينا أن نعرف ما نريد وما لا نريد، و أن نغربل شؤوننا بحكمةٍ ورويّة، وأنْ نلتفت إلى الوطن والمواطن. وقد جاء ذلك بصيغةٍ فنّيّةٍ سهلةٍ ممتنعة، وغنيّةٍ بتفاصيل مؤلمة، وصورٍ مشاهدةٍ معبّرة، في حبْكةٍ قصصيّةٍ كلاسيكيّة، ركّزتْ على فعْل الشّخصيّة، واتّخاذ قرارها. فـالدّور الفاعل، والحضور، والجماعة ومدى إثبات وجودها، بارزٌ بوضوحٍ في القصص، ولذلك أحسن الكاتب توظيف التّذكّر والاسترجاع، والحوار الهادف المكثّف، لاسيّما المونولوج وحديث النّفْس، للمكاشفة والوقوف على المستويات الفكريّة والذّهنيّة، وكذلك الحلم، لتسليط الضّوْء على الواقع ومغايرته، والسّخرية كأداةٍ نقديّةٍ للأحوال السّياسيّة والإداريّة والاجتماعيّة، عنونةً ومضموناً، كـسوء الطّالع وحسن الطّالع والبهلوان في قصّة «حكاية صور».
ويتسم أسلوب الزعبي بكونه أسلوباً فنّيّاً متيناً، يقوم على لغةٍ فصيحةٍ سلسة، لا تخلو من استحضار بعض الدّارجة (وعْدٌ عليّ، جلْداً على عظْم، تفّه على الطّاغية)، وبتكثيفٍ واقعيٍّ شيّق، يذكّر بالقصص الرّوسيّة، مثل «لمنْ أشكو كآبتي؟» لتشيخوف.
ولا شكّ في ذلك بحكم توجّه نتاج الزعبي القصصيّ وثقافته الواسعة واشتغاله بالتّرجمة الأدبيّة. إلا أنّه ترك بصمةً خاصّةً في عمله فكراً ومضموناً؛ فهو قاصٌّ واقعيٌّ بجدارة، وواقعيّة قصصه النّقديّة ثوريّةٌ بعض الشّيء، تصف الحال العربيّة والإنسان العربيّ وأحواله النّفسيّة، وتعرّي واقعه، وتفترض جملة علاقاتٍ سببيّة، بين الذّهنيّ وما في العالم الخارجيّ، بسخريةٍ ناقدةٍ لا عبثيّة.
ولعلّ في اختيار العنوان والغلاف ما يسترعي الانتباه؛ فهما منسجمان ودالّان ومرتبطان، وقد وُفّق الكاتب في لفْت الأنظار بهذا العنوان المكثّف والمشوّق والموحي، وبالاستيحاء التّاريخيّ والواقعيّ المتمثّل في صورٍ مألوفةٍ ومؤثّرةٍ ودالةٍ ومنسجمةٍ في التّعبير عنْ لحظاتٍ تاريخيّةٍ تركتْ آثارها في تأزّم الوطن العربيّ وإنسانه، منفتحةً على ظروفٍ وقضايا سياسيّةٍ، كالقضيّة الفلسطينيّة والنّضال الفلسطينيّ واستمراريّة الصّراع العربيّ-الإسرائيليّ حتّى اللحظة؛ والاحتلال الأميركيّ للعراق وسقوط بغداد عام 2003؛ والأزمة السّورية والتّناحر والاقْتتال بين السّلطة والمعارضة وقوى أخرى ونتائجها على الإنسان وحياته؛ وحلم المواطن العربيّ بالأفضل في ما سمّي ثورات «الرّبيع العربيّ» التي انقلبتْ رأساً على عقب، حتّى استوى ربيعُ الأمّة وخريفُها وبات الحزن حديثها؛ فلا جديد يذكر سوى الاقتتال والدّماء والمعاناة والتّشرّد والضّياع، وكأنّ هذه المجموعة حكايةٌ طويلةٌ عن فصول الأمّة المتشابهة والعقيمة، وحكايةٌ منفتحةٌ على عالمٍ روائيٍّ غنيٍّ بتفاصيل القهر والاستبداد والتّشتّت؛ فعناوين القصص المترابطة محمّلةٌ بمعاني الْعبث والألم والحلم، ومنها: تقاسيم المدن المتعبة، وسوريالية: وجوهٌ وأماكن، والشّهيد، وأحلام عارية، ومقتل حلم.
وفي عنوان المجموعة ما يدين الواقع العربيّ المأزوم، ويلخّص خريفه وخريف الشّعوب في فصولٍ أربعةٍ مكرورة، يعصف بها ثبات الحال البائسة، وألفة المعاناة والعذابات، لفشل التّجارب، واستمراريّة آثار الأزمات، وإنْ كانت الفصول الأربعة حاضرةً الا أنّ الخريف بدلالاته يغلب عليها ويكتسح الأجواء برمّتها، لا سيّما في قصّتيْ «رواية الفصول الأربعة» و"ورقةٌ واحدة تكفي»، فتكاد هذه المجموعة تكون مقاربةً روائيّةً واقعيّةً نقديّةً تعكس لا جدوى العمل وضياع الجهود، واجتماعيّةً باحتكامها إلى الوعي وضرورته في مواجهة الشّرْط الوجوديّ والاجتماعيّ والسّياسيّ الرّاهن.
إذ تعكس المجموعة صوراً مأساويّةً للحياة العربيّة بدءاً من زمنٍ سابقٍ للانتفاضة حتّى اللحظة، وتحيل إلى بعض النّماذج الإنسانيّة المألوفة والمتصارعة مع متطلّبات الحياة والحلم، كما تحيل إلى واقعٍ مأزومٍ له صدًى واسعٌ في الذّات العربيّة، يقتضي ضرورة التّغيير خدمةً للإنسان والوطن، والعدول عن نمطيّة الحياة الدّامية، والمشاهد المأساويّة اللامتناهية، برمزيّةٍ فنّيّةٍ واضحة، تسعى ضمن نطاق الرّؤية إلى رسم واقعٍ متشرذمٍ ومتشظٍّ ومتشتّتٍ ومشتّت، للأخذ بعقال الأمور، والبحث عن حلول، بجدّيّةٍ فنّيّةٍ تستحضر مراحل تاريخيّةً حسّاسةً في المنطقة، وتقف على نماذج مأزومةٍ، إمّا فقيرةً ومهمّشةً أو مضطهدةً أو مناضلةً أو مثقّفةً، وتسلّط الأضواء على البيئة العربيّة المضحّية على المستويات المختلفة، ما أحال الوضع إلى استنفار المناهضات والمظاهرات والثّورات.
ومن هنا، تكاد قصص هذه المجموعة تغصّ بموضوعات الصّراع السّياسيّ، والأحزاب، والدّيمقراطية، والانتخاب، والثّورات، والاعتصامات، والحروب، والدّمار، والأيديولوجيا، وهي موضوعات سياسيّة بالدّرجة الأولى، واجتماعيّة من ناحيةٍ أخرى، تلقي الضّوْء على واقعٍ يتعلّق بنماذج إنسانيّةٍ مألوفةٍ تدعو إلى التّحيّز والشّفقة، وبعض أوضاعها النّفسيّة كالقهر والألم والشّتات والضّياع، مع التّفنّن برسْم أبعادها سرداً ووصْفاً.
فهذه القصص لا تحفل بالمفاجآت بقدْر تركيزها على رسم الشّخصيّات وظروفها المعيشيّة وأحوالها النّفسيّة، تلك النّماذج التي راحتْ ضحيّة تبعاتٍ سياسيّةٍ تاريخيّةٍ فاصلةٍ ومريرةٍ كاللجوء والشّتات، والشّقاء وشظف الحياة، والتّهميش وانتظار تحقّق حلم العودة، كما في قصّة «سجّادة جدّي"؛ ونماذج أخرى تبحث عن قيمة الإنسان وحياته الكريمة المستلبة، في ظلّ الاستبداد والظّلم السّياسيّ والإداريّ، وتنادي بضرورةالعمل الاجتماعيّ  الجماعيّ، كما في قصّة «الطّاغية».
وهناك، في القصص، نماذج تنتمي إلى طبقةٍ فقيرةٍ مسحوقةٍ ومهمّشةٍ ومهمومةٍ تصوّر معاناتها ودورة حياتها المستمرّة في صنوف الاضطهاد والضّيق والحرمان، لكنّها حالمةٌ وطامحةٌ كالإسكافيّ في قصّة «الإسكافيّ»، والأمّ التي مثّلتْ كدّ الإنسان وتعبه وأزمته في مجتمعه في قصّة «ورقة واحدة تكفي». وهناك نماذج تسعى إلى الحرّيّة وتؤمن بالإنسان الفاعل وإرادة الشّعوب، تحت مسمّى «الرّبيع العربيّ» كما في قصة «مقتل حلم».
ويتّضح أنّ هذه القصص تسير في منظومةٍ ممنهجةٍ غير مقصودة، وواحدةٍ في رؤيتها وموقفها (الواقع، فالرّؤية، فالأمل والحلم بالأفضل والتّغيير، ثمّ الإرادة وامتلاكها، ثمّ التّحرّر من الوهْم، ومن ثمّ العمل المشترك). وأكثر ما يتجلّى هذا في قصّة «نشرة أحوال الجسر"؛ ونماذج أخرى مأزومةٌ ومضحّيةٌ نتيجة القمْع الاجتماعيّ والسّياسيّ؛ إذ تحكي واقع أفرادٍ وجماعاتٍ مضطهَدةٍ بلسان ساردٍ عليمٍ وبنقدٍ لاذعٍ، يعبّر عن القهر السّياسيّ والاجتماعيّ والفكريّ، وأخرى تصوّر حال اللاجئين والنّازحين والمواطنين الذين تأثّروا بواقع القتل والدّمار في أوطانهم والتّشيّع والتّشرذم والانتكاس كما في قصّة «ثلاث دمْعاتٍ على بغداد»، وقصّة «شقائق النّعمان» التي ترسم صورةً لمأساة امرأةٍ عراقيّةٍ نازحةٍ إلى «جبل الجوفة» في عمّان، نتيجة سقوط بغداد بيد الاحتلال، وتعبّر عن جملة كوابيس وعن الضّياع والأحزان، وترسم صورةً عن غياب الزّوج واضطهاده وطمع الجار وشهواته.
وتطرح القصص نماذج للمهزومين والمهمومين والمأزومين والشّاهدين على الحروب والاضطرابات والفتن كما في قصّة «صابر»، والشّاهدين على الإرهاب الصّهيونيّ وتبعات ذلك على العرب، مع أو ضدّ، والتّناحر الأخويّ كما في قصة «سوريالية: وجوه وأماكن».
وهناك نماذج أخرى في القصص، مألوفةٌ ومناضلةٌ ومكافحةٌ ومضحّية من أبناء المهمّشين في قراهم، كشهيد المقاومة في لبنان في قصّة «الشّهيد». ولعلّه يصحّ القول إنّ هذه المجموعة مشروع روايةٍ سياسيّةٍ بحْت، بلحمة موضوعها ومضامينها وهموم شخوصها، تصوّر الوطن العربيّ وبعض نكساته السّياسيّة التي خلّفها الاحتلالان الصّهيونيّ والأميركيّ والقمع السّياسيّ، كـ: الصّراع العربيّ الإسرائيليّ، وأيلول الأسود، واجتياح لبنان واحتلال بيروت، وسقوط بغداد وإعدام الشّهيد (صدّام حسين)، وثورات الرّبيع وانطلاقها من تونس، وحرْب غزّة عام 2014، والقصْف والدّمار والإرهاب، كما في قصص «صابر»، و"ذهب أيلول»، و"سيرة قلب»، و"سوريالية: وجوه وأماكن»، و"سارة» التي اتّخذتْ بعداً رمزيّاً.
فما الغولة في قصّة «سارة» إلا رمزٌ للاحتلال الصّهيونيّ، بؤرة الإرهاب في الوطن العربيّ، بإشارة قول السّارد: «لم تتمكّنْ سارة من النّهوض من مكانها، عاجلها حسن بطعنةٍ عميقةٍ من خنجره ذي الحدّين في صدْرها، فتدفّق دمها الأزرق ليملأ يديه وملابسه وما زال اللون الأحمر يملأ شاشة التّلفاز"؛ وكذلك مصادرة الحقوق والكرامة، وغياب الدّيمقراطيّة والعدالة؛ لذا تعرّي الفساد، وتصوّر الأبعاد، وتعدّد السّياسات، وخلْق الفجوات، وتعدّد التّوجّهات والأيديولوجيّات، والانتساب إلى الأحزاب؛ فالتّشرذم والتّشظّي شتّت الجهود المرجوّة، وضيّعها بين الجدل والثّرثرة، والوعي واللاوعي، والاستسلام للسّلْم، كما يَظهر في قصص: «الصّورة»، و"المسبحة»، و"تمارين على رفع الرّاية البيضاء».
وممّا يلفت الأنظار في فنّيّة هذا العمل طبيعة السّرد المحفّز بأفعالٍ متتابعة، تتناسب مع ظروف الشّخصيّات وأزمة واقعها، وتضافره مع الوصف في رسم أبعادها وحاجاتها وبؤس أحوالها، كما في قصّة «الإسكافيّ»، وكذلك تأريخ أكثر القصص، ما يفتح أفق الدّلالات على بعض اللحظات التّاريخيّة؛ واستحضار بعض التّاريخ بسخريةٍ لاذعةٍ واضحة (نشأة الدّيناصورات، والهنود الحمر، وتنازل لويس التّاسع عشر عن العرش)، وما تستقطبه الإحالات من اضطراباتٍ وتحوّلاتٍ وثورات وغيرها؛ واستيحاء مواضيع بعض القصص من الواقع كقصّة «حكاية صور» التي وظّفتْ قصّة «البوعزيزي» التّونسيّ الذي كان ضحيّة قمعه واضطهاده وفاتحة ثورات «الرّبيع العربيّ».
ويوظف الزعبي في قصصه، الحلم قلْباً وقالباً وعنونةً، كما في «مقتل حلم» و"أحلام عارية»، لتعميق الرّؤية وسبْر أغوار النّفْس الإنسانيّة، أملاً في التّوازن بعرْض المتناقضات، فالواقع يتشابك دون فاصلٍ مع أحلام اليقظة، كما يلاحظ أنّ دوال الرّبيع والحلم والعربيّ متفشّيةٌ بدلالاتٍ مؤلمةٍ جدّا، ترسم لوحةً غنيّةً بالأبطال المهزومين والمشاهد المأساويّة المستلْهمة منْ واقعنا البائس، وتاريخنا المشنوق، وآمالنا الميْتة، ورغم اهتزاز الشّخصيّة العربيّة منْ داخلها وضعفها إلا أنّها تحاول كبْح جماح الواقعيّ بغير الواقعيّ عن طريق التّمرّد؛ فالمكان العربيّ فضاءٌ واسعٌ ومأزومٌ تتحرّك فيه الشّخصيّات وتلتحم الأحداث في صراعٍ محتدم.
وقد منح توظيف الكاتب للتّراث جماليّةً شكليّةً رمزيّة، دالّةً وموحية، لتعزيز الصّورة وتعميق الرّؤية، وتصوير الهموم والنّقْد لا تصوير التّفاوت الاجتماعيّ؛ فكلّ شيءٍ يبوح بجرائم ضدّ الإنسانيّة، معيداً تشكيل التّاريخ العربيّ القريب بعثراته وسوداويّته، ما يوحي بعبثيّة الحلم العربيّ، وذلك باستحضار الموروث الثقافيّ الشّعبيّ والدّينيّ والأدبيّ واستلهامه، مثل الآيات القرآنيّة، والأمثال، والحكايات الشّعبيّة شكلاً لا مضموناً، مثل حكاية الشّاطر حسن والغولة كما في قصّة «سارة» للتّرميز إلى حال الدّول العربيّة مع الاحتلال الصّهيونيّ.
كما يستحضر الزعبي الأساطير، مثل أسطورة شقائق النّعمان في قصّة «شقائق النّعمان»، لطرح عالمٍ بديلٍ عن واقعٍ مرفوضٍ، بحرفيّةٍ عاليةٍ تدلّ على أنّه مسكونٌ بالتّراث. إذ استحضر هذه الأسطورة بدءاً من العنوان، كرمز للتّضحية والدّماء، وعواقب الاستهانة بالتّحذيرات، والمعاناة والأحزان، مسقطاً إيّاها على ظرْف النّموذج الإنسانيّ الموظّف وهو «غادة»، المرأة العراقيّة التي ضيّعها سقوط بغداد، فنزحتْ، وعانتْ حالةً من الغربة والاغتراب، والصّراع بين زوجها المستبدّ وجارها الشّابّ، ممثّلةً كلّ عراقيٍّ نازح، والوطن الذي تكالبتْ عليه الظّروف والقوى الخارجيّة حتّى احتلّ.
تقف هذه المجموعة على جملة تحوّلاتٍ سياسيّةٍ مصيريّة، ومفاهيم كاللاجدوى، واللاديمقراطيّة، والثّورة والتّشتّت وغيرها، الأمر الذي وسّع دائرة التّشعّب، وأطلق مدى التّشظّي حتّى ضاع الحقّ العربيّ، وغاب الاستقرار، وبهتتْ ملامح الشّخصيّة العربيّة الأبيّة، في خضمّ الفوضى السّياسيّة والإداريّة والاقتصاديّة، والانتكاس والانشغال بالقمع والقهر والعنف والاقتتال، فلمْ يؤت «الرّبيع العربيّ» أكلاً طيّباً، وضمن بذلك العدوّ الأوّل للأمّة (الاحتلال الصّهيونيّ) أرضيّةً خصْبةً لأمانه واستقراره.
وتصرّ مجموعة «رواة الفصول الأربعة» على ضرورة التّغيير، ونبذ الضّعف والصّمت، بالتّركيز على الحلم والحركة والصّوت والأفعال، والإلحاح على الصّراعات والتّفاوت والمتناقضات التي توحي بالمسموح والممنوع كـ: الأخضر والأحمر، القريب والبعيد، القريب والغريب، الإرادة وسلْبها، الحرّيّة ومنعها، اليمين واليسار، الخير والشّرّ، السّلطة والمعارضة، الأبيض والأسود، الإيمان والإلحاد...، بما يؤكّد الخلل والاضطراب، وانعكاس ذلك على الجماعات التي مثّلتْها الشّخصيّات، وردّات فعلها؛ فهي تقف على: الطّرف والنّقيض، الذّات والآخر، الفرد والجماعة، الشّرق والغرب، التّحضّر والتّخلّف، الرّبيع والخريف، البناء والهدْم، الفرح والحزن، الانتشاء والموْت، القيمة والعبثيّة، الجدوى واللاجدوى، المثقّف والسّلطة، التّجديد والاستمرار، النّقص والكمال، الظّلْم والعدْل....
وبذلك، تجلّتْ القصص بطابعٍ واقعيٍّ، وفلسفيٍّ ذهنيٍّ، ورمزيٍّ عن أوضاعٍ تتنفّس التّاريخ الدّامي والواقع المأساويّ، وطابعٍ إنسانيٍّ اجتماعيّ، وسياسيٍّ غنيّ، يسلّط الأضواء على آثار انتكاس بعض البلاد وصراعاتها ونزاعاتها على إنسانها، راسمة صورةً عن نضاله من ناحية، ووهنه من ناحية، إزاء مواجهة ظرْفه، وصورةً عن اضطرابه نتيجة الحروب وأنظمة الاستبداد السّياسيّ والاقتتال الدّمويّ والتّشرذم الطّائفيّ والحزبيّ
والأيديولوجيّ، واختلاط الحقائق الإعلاميّة المسموعة والمقروءة والمرئيّة، وتعدّد الخطابات، والتّشظّي والتّشتّت والضّياع، وتضييق الحريّة والقمْع الفكريّ، والرّقابة في زمن القهْر العربيّ، لذا تغرق في التّضحية والدّماء، والبؤس والشّقاء، والعجز والهرب من حالة الضّياع، مع دعوةٍ جادّةٍ إلى فهْم الواقع، والوحدة الوطنيّة، والعربيّة القوميّة، والارتقاء بالإنسان وحفظ كرامته وحياته، ومواجهة المحتلّ الحقيقيّ ونبذ السّلام معه، من خلال مزج الواقعيّ باللاواقعيّ، والمحكيّ القديم بالقصّ الآنيّ.
هذه القصص من الأدب الجيّد، الذي يتحدّث عنْ كثيرٍ مسكوتٍ عنه، ويصوّر قلق المثقّف إزاء بعض التّحوّلات السّياسيّة والاجتماعيّة وآثارها، ويشي برسالةٍ إنسانيّةٍ نبيلةٍ، يؤمن بها الكاتب المبدع والملتزم والمهموم بهموم أمّته وظروفها البائسة، معبّراً عن الواقع المؤلم وأزمة الإنسان، رافضاً الظّلم والعدوان، ومنتصراً للحياة الكريمة والأمان، ومعنيّاً بقيم الحقّ والخير والجمال، والعدالة الاجتماعيّة والانسجام، والحياة بسلام.