عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    21-Jan-2025

غياب الأحزاب السياسية والمسكوت عنه*تمارا خزوز

 الغد

يتساءل كاتبان بارزان، هما الأستاذ فهد الخيطان والأستاذ مالك عثامنة، في مقالين نُشرا بفارق أيام، عن أسباب غياب الأحزاب السياسية عن المشهد. وليسمحا لي أن أقدم تصورًا للإجابة عن تساؤلهما، مستندًا إلى قربي من الأحزاب خلال فترة التحضير للانتخابات بصفتي الاستشارية.
 
 
لقد أشرت إلى جذور هذه المشكلة في مقال بصحيفة «الغد» بعنوان «الأحزاب والكلام لمجرد الكلام» المنشور بتاريخ (24 حزيران 2024) حذّرت فيه أننا أمام حراك انتخابي سياسي مفرغ من المضمون، سيشكل فيما بعد إحراجًا للقائمين على ملف التحديث السياسي. وقد بدأت ملامح هذه الأزمة تظهر اليوم على شكل ضعف أداء النواب وغياب الالتزامات السياسية الواضحة بين أعضاء الحزب الواحد، كما اتضح في كلماتهم ومواقفهم التصويتية أثناء الرد على خطاب الموازنة، وقبلها حالة عدم التجانس داخل الأحزاب، تجلّت بوضوح في الخلافات والاستقالات والتجاذبات التي بدأت فور انتهاء الانتخابات.
في الواقع، غياب الأحزاب عن المشهد لا ينبغي أن يكون مفاجئًا، ولا حتى محل تساؤل، فقد كانت الفجوة واضحة بين رؤية جلالة الملك للتحديث والتنفيذ الجاري على الأرض الذي حمل في طياتها مخاطر عدة حذّر منها كثيرون، لكنها أُهملت لأسباب غير مفهومة. والنتيجة، ما نشهده اليوم من غياب واضح للأحزاب السياسية عن المشهد.
أول هذه المخاطر كانت تتمثل في أزمة الخطاب والمضمون السياسي الذي تعاني منه معظم الأحزاب الجديدة، هذا الواقع أدى إلى عجز الأحزاب عن خلق حالة من الاستقطاب تعزز حضورها أمام الرأي العام، حيث فشلت في تقديم مواقف سياسية واضحة ومؤثرة تجاه القضايا الكبرى مثل قضية غزة، والفساد، والمديونية، والحريات العامة، والقطاع العام، والوضع الاقتصادي، وغيرها من التحديات الأساسية.
أما المخاطر الأخرى، فتتعلق بطريقة تعاطي الأحزاب السياسية مع ملف المرأة والشباب، وهو الملف الأكثر أهمية على عدة مستويات. فقد أُنتجت القيادات الشبابية في إطار يشبه «حواضن تفريخ» (incubators) بأسلوب سريع ومتعجل، في حين كان الأصل أن تنطلق هذه التجارب من العمل الطلابي الجامعي، الذي يفرز تفاعلًا سياسيًا حقيقيًا مصبوغًا بطابع التنظيمات السياسية التقليدية. بدلًا من ذلك، نشأ نموذج هجين ومختلط، يجمع بين ثقافة المجتمع المدني، والمبادرات الشبابية الرسمية، والقيادات العشائرية.
وينطبق الأمر تماما على ملف المرأة، فلم يظهر حضور قوي لقيادات نسائية جديدة في الصفوف الأولى، أما عن الوجوه النسائية البارزة أصلا فقد خرجت غالبًا من رحم المجتمع المدني أو العمل الحكومي، والأحزاب اليسارية والإسلامية التقليدية.
أما التشوه الآخر كان في طبيعة الحراك الانتخابي الحزبي المثقل بثقافة الصوت الواحد، والذي اقتصر في كثير من الأحيان على طابع اجتماعي مراسمي قابله وعود بالتأييد. في المقابل، أُهملت بشكل مستغرب أدوات الدعاية الحديثة، مثل وسائل التواصل الاجتماعي، التي تضمن انتشارًا أعمق واستقطابًا أكبر. هذا الإهمال أفقد الأحزاب فرصة تأسيس حواضن اجتماعية تدعم حواضنها السياسية، وهو ما يشكل أحد أسرار نجاح الأحزاب الدينية في المنطقة. بذلك، أضاعت الأحزاب فرصة ثمينة لتعزيز حضورها خلال الانتخابات البرلمانية الأمر وهو نفسه سبب ضعف أدائها في البرلمان لأنها لا تمثيل حواضن اجتماعية وسياسية حقيقة.
 وكانت المخاطر قد وصلت ذروتها في الترويج المبالغ فيه لفكرة «البرامجية»، باعتبارها بديلاً للأيديولوجيا، مما أدى إلى انشغال معظم الأحزاب بشكل مفرط بصياغة وإنتاج أوراق السياسات وأوراق الموقف، مما حولها إلى ما يشبه مراكز بحثية أو معاهد سياسية، بينما كان من الأجدر إحالة هذا العمل إلى مؤسسات المجتمع المدني والمراكز البحثية عبر التشبيك والتعاون ومن ثم تبنيها لاحقا من قبل الأحزاب.
بالمحصلة، لن يصلح العطار ما أنتجه الدهر والحل الوحيد في هندسة سياسية جديدة تقوم على الدمج والتصفية بين الأحزاب بشكل سريع وجراحي والسماع لصوت العقل على أسس سياسية وليس أمنية، والقيام بمراجعة نقدية لما حدث.