عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    24-Nov-2019

نساء اليمن.. أشباح المجتمع - صهيب الأغبري
 
الجزيرة - خلال تاريخ طويل عريض معقّد بشبكة مستحيلة الحلّ، اقتاد اليمنيون فخرهم بملكتهم الأسطورية العظيمة ملكة ممكلة سبأ، لم يطمس فخرهم معتقد أو عادات تعوّدوا من خلالها أن يخفوا دور المرأة في الحياة، وأن يخففوا من ألوانها قدر المستطاع حتّى شكّ القارئ في تاريخ وحكاية هذا البلد بوجود النساء في اليمن لولا انسلال وتكاثر هذا الشعب الأصيل الكبير على مدى سنواته العجاف والخفاف.
 
لم يُخفِ اليمنيون فخرهم بملكتهم الأمّ، تجاوزوا كلّ ما اعتقدوه بولع بأن المرأة لا يجب أن تحكم وتتحكّم، أو تبني وتشارك في البناء وصنع القرارات والآراء، كانت ملكة سبأ -وما زالت- بنزين فخرهم المغشوش حتّى استولت مع بضع مكانة مع ملكة أخرى هي الملكة الصليحية أروى على مكانة المرأة في اليمن، فكانتا هما المرأة والملكة واليمن النسويّ في التاريخ، لا امرأة أخرى ظهرت بعدهما، اكتفى اليمن بهما، امرأة أولى وأخرى أخيرة حكمتا اليمن، وهذا قدر حلّ حتّى همّش دور المرأة بصفعات ولكمات المعتقدات والعادات والتقاليد لقرون بعدهما.
 
ثلاثون مليون إنسان يعيش اليوم في اليمن، يختفي نصفهم تحت نصفهم، بأدوات العار والعيب وعُقَد الأولين والسافلين والسالفين، بين أحشاء البلد تعيش نساء اليمن داخل القوارير المصمتة، مغلفة بالألقاب المبهمة، والصفات العامّة التي تقتل وتسحل هويتهن تحت تصنيف العار، مع تيّارات رياح التحرر والحركات النسويّة في جميع الأقطار والأمصار منذ سنوات عديدة، شطفت نسمات باردة حدود هذا البلد حديثًا، فانكشف القليل من الذليل وكانت أسماء معدودة تنادي بظهور المرأة، طلوعها واطّلاعها على كلّ ما يجري في العالم، إلى اليوم ما زالت مواد قانون اليمن تهذي بالكثير من التهميش، لا أحد يعرفها أو يقرأها، ومن يستطيع القراءة لا يستطيع الكتابة أو الصياغة أو التأثير.
 
كما كلّ السيناريوهات التراجيديّة المكتوبة لهذا البلد، لم يدم هذا الحلم طويلًا، فسرعان ما صحت الأفكار القبلية والدينية المتطرفة حتّى دفنتْ هذا الحلم تحت سبعين ذراعًا من الفتاوى وطلقات التكفير والاتهامات بالانحلال والدعارة
من زواج بعمر لا رأي فيه ولا أحكام حتّى انتصاف كيان المرأة والإصرار على وضعيتها ونقصها وتخلّفها، تزاوجها مع صفات العيب والغيب والتخفّي وانعدام الهويّة، نساء تنسى وجودهن، وخوف يحبس الشكوى والكلام، كلّ هذا صنع يمنًا يابسة، مجمّدة وجافّة، أحادية الصوت والشكل والهوية والثقافة، تسكنها أشباح عمرها آلاف السنين، غبار تختفي تحت ذرّاته تُحَفٌ ملوّنة تقصّ أساطير المساواة التي كانت، ربما، كانت وكانت، وكانت المرأة آلهة وراهبة وملكة، مزارعة وحرفيّة وكاتبة وموسيقية، حُفرت صورها في الصخور وتجمّدت إلى الآن صورة غاضبة، كانت تحمل سنبلة وآلة وترية، تحولّت أوتارها اليوم إلى أسواط تُجلَد بها إذا فكّرت في انتزاع قشرتها وتبديل جلدها.
 
لم تشهد اليمن هذا التحوّل والإخفاء القسري للمرأة فجأة، فقد كانت له أسبابه الكثيرة، وليس من المعقول أن تُجلَد الآلهة فجأة، ولكنها أُقصِيَت بالتدريج، حتّى تلاشت، فخلال العصور والقرون الأولى الكثيرة، سيشهد المفتّش الكثير من معارك وحروب دفن المرأة في اليمن، وظهورها القصير فجأة واختفائها الطويل في الكثير منها، فكان من ظهورها الأخير حين تبنّت اليمن خلال القرن العشرين مناهج عالميّة أمميّة ترى وجه العالم الكبير، سياسية واقتصادية، أثّرت في الحياة الاجتماعية، ففي جنوب اليمن الاشتراكي لعبت حركات التحرر من الاستعمار وتبنّي الفكر الماركسي التقدمي دورًا كبيرًا في ظهور المرأة بعد سنين طويلة من الاختفاء، فعادت المرأة العاملة والمتعلمة، الحداثية والبارزة.
 
لكن كما كلّ السيناريوهات التراجيديّة المكتوبة لهذا البلد، لم يدم هذا الحلم طويلًا، فسرعان ما صحت الأفكار القبلية والدينية المتطرفة حتّى دفنتْ هذا الحلم تحت سبعين ذراعًا من الفتاوى وطلقات التكفير والاتهامات بالانحلال والدعارة من الآراء التي طمست وباغتت اليمن! ولم يكن هذا الحلم ونهايته مقتصرًا على منام جنوب اليمن فقط، بل راود شمالها، فبعد إشراق شمس ثورة 26 سبتمبر كانت النوايا قويّة لإدخال اليمن -وأخيرًا- إلى عالم العصر والقرن والزمان، فأهلّت الحقوق المشروعة، وتقدّمت باستحياء وخوف شديدان من عدم مسّ الشرائع، لكنها رغم هذا أسقت العطش المتزايد لنيل المرأة دورها وحقها مقارنة بما كانت عليه، إضافة إلى ذلك وما كان في الصورة، تغيّر الأفكار العامّة والتصوّر للمرأة وأهمية مشاركتها في الحياة، فظهرت من جديد معلنة ثورة أخرى على المجتمع قبل كلّ شيء.
 
لم يمت هذا الحلم وطعن من خاصره كما مثيله الأوّل، لكنه شحّ وبهت، وتقلّص مع حركات وتيّارات دينية متطرفة فيروسية مماثلة كانت موجهة لدفن أحلام اليمن ونسائه، دفنت الأحلام، وبقت الأساطير تحوم حول واقع شرير، يجرّ ما خلفته المعتقدات والعادات في الحاضر، يحارب الأحلام بالأوهام، فبين العار والحرام، تسكن المرأة في اليمن، هي "حُرمة" و"عار" وأم فلان وأخت علّان، دون هويّة، تتشكّل بتشكّل من حولها من الرجال، لا تملك حتّى نفسها، وبقيت ملكة سبأ، وأروى والنقوش شواهدًا صامتة لحكاية أسطورية، عُرِفت يومًا ما بحكاية المرأة في اليمن، لم يعد لها دور حقيقي اليوم سوى ذكريات محرّمة، أو موجودات حاضرة خجولة معدودة بأصابع مقطوعة.