عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    09-Dec-2024

هذا ما يجب أن تعرفوه.. انطباعات جندي احتياط في غزة

 الغد

جندي احتياط*- (هآرتس بالعربي) 2024/11/21
كان المفاجئ حقا هو السرعة الكبيرة التي يصبح بها كل شيء طبيعيا ومنطقيا. بعد بضع ساعات، تجد نفسك وأنت تحاول جاهدا تكوين انطباع عن مدى الدمار؛ تُسرّ لنفسك بعبارات من قبيل: "يا له من شيء مجنون". لكنّ الحقيقة هي أنك تعتاد مشاهد الدمار بسرعة فائقة. يصبح الأمر عاديا، مبتذلا ورخيصا. كومة أخرى من الحجارة. يبدو أن هذا كان مبنى لمؤسسة رسمية؛ هذه كانت بيوتا سكنية، وهذه المنطقة كانت حيا. أينما ولَّيت وجهك، وإلى أي مكان نظرت، ثمة أكوام من الحديد، والرمل، والإسمنت، والحجارة، زجاجات المياه الفارغة، والأشياء المسحوقة، على امتداد الأفق، حتى البحر. تجذب انتباهك بناية ما تزال واقفة، صامدة كما كانت. "لماذا لم يدمروا هذه البناية بالتحديد؟"، سألَتْ شقيقتي على "واتس أب" بعد أن أرسلتُ لها الصورة. وتضيف: "وأيضا، لماذا دخلتَ إلى هناك، بحق الجحيم؟".
 
 
لماذا أنا هنا؟ هذا شأن أقل أهمية. لستُ أنا الموضوع هنا. وليست هذه، أيضا، لائحة اتهام ضد الجيش الإسرائيلي. لهذا الشأن مكان في مواقع أخرى؛ في افتتاحيات الصحف، في المحكمة الدولية في لاهاي، في الجامعات الأميركية، وفي مجلس الأمن الدولي.
 
أما المهم هنا فهو أن نعكس الصورة للجمهور الإسرائيلي، كي لا يقولوا، لاحقا، أنهم لم يعلموا. أردتُ أن أعرف ما يجري هنا. هذا ما قلته لعدد لا يحصى من الأصدقاء الذين سألوني: "لماذا دخلتَ إلى غزة؟"
عن الدمار، ليس هناك الكثير مما يمكن أن يقال. إنه موجود في كل مكان. إنه يقفز إلى العين بمجرد الاقتراب، من صور طائرة من دون طيار، لما كان في السابق أحياء سكنية: حديقة معتنى بها جيدا محاطة بسور مهدوم ومنزل محطم. طاولة. أرجوحة. كوخ مؤقت ذو سقف من الصفيح خلف الزقاق. كتل داكنة في الرمل، الواحدة بجانب الأخرى. هنا كان بستان، على ما يبدو. أشجار زيتون، ربما. إنه موسم قطاف الزيتون الآن. وها هنا حركة -شخص يتسلق أكوام الردم، يجمع أشجارا مطروحة على الرصيف، يحطم شيئا ما بواسطة حجر. كل هذا بنظرة من الجو، من الطائرة من دون طيار.
كلما اقتربنا من المحاور اللوجستية -نتساريم (المحور الأوسط)؛ وكيسوفيم؛ وفيلادلفيا (صلاح الدين)ـ نرى عددا أقل فأقل من المباني التي ما تزال قائمة على حالها. الدمار هائل، وهو موجود هنا ليبقى. هذا ما ينبغي أن تعرفوه. هذا الواقع لن يُمحى في الأعوام المائة المقبلة. ومهما حاولت إسرائيل الإخفاء، التعتيم والتمويه، فإن الدمار في غزة هو الذي سيعرّف، منذ الآن فصاعدا، حياتنا وحياة أولادنا. سيكون شهادة ودليلا على العربدة والفلتان الجامح من غير قيود. كتب أحد الأصدقاء على حائط "غرفة الحرب": "الهدوء يُقابل بالهدوء. نوفا ("مهرجان نوفا الموسيقي" في رِعيم/ غلاف غزة) يقابَل بنكبة". وقادة الجيش الإسرائيلي تبنوا ما كُتِب.
من وجهة نظر عسكرية، التدمير أمر لا مفر منه. القتال في منطقة حضرية مكتظة بالسكان في مواجهة خصم مجهز جيدا يعني تدمير المباني على نطاق واسع جدا، أو موت الجنود بصورة محققة. وإذا كان يتعين على قائد اللواء الاختيار ما بين حياة الجنود الذين تحت إمرته وبين تسوية المباني بالأرض، فإن طائرات (إف ـ 15) المحملة بالقنابل سوف تبدأ بالتحرك على مدرج الإقلاع في (قاعدة) "نفاطيم"، وسوف ترتج سبطانة المدفعية. لن يتحمل أحد أي مخاطرة بعد الآن. إنها الحرب.
أصبحت القدرة على القتال بهذه الطريقة ممكنة بفضل تدفق الأسلحة والذخائر التي يتلقاها الجيش الإسرائيلي من الولايات المتحدة، والحاجة إلى السيطرة على المنطقة بنشر الحد الأدنى من عديد القوات. هذا صحيح بالنسبة لقطاع غزة، وهو صحيح أيضا بالنسبة للبنان. الفارق الأساسي بين لبنان والجحيم الأصفر من حولنا هو المواطنون المدنيون. على عكس القرى في جنوب لبنان، المواطنون هنا ما يزالون هنا. يجرجرون أنفسهم من بؤرة قتالية إلى أخرى، حاملين حقائب الظهر المضغوطة وغالونات المياه.
تمشي الأمهات مع أطفالهن ببطء على طول الشارع. إذا كان لدينا ماء، نعطيهم الماء. القدرات التقنية التي طورها الجيش الإسرائيلي خلال هذه الحرب مثيرة للإعجاب. شدة النيران. استخدام النيران الدقيقة وجمع المعلومات الاستخبارية بواسطة الطائرات من دون طيار. هذه كلها توفر ثقلا موازِنا للعالم التحتي الذي بنته "حماس" و"حزب الله" على مدى سنوات.
تجد نفسك تنظر من بعيد، طوال ساعات، نحو مواطن يجر حقيبة لبضعة كيلومترات على طريق صلاح الدين. الشمس حارقة فوقه. وأنت تحاول أن تفهم: هل هذه عبوة ناسفة؟ هل هذه بقايا حياته؟ تنظر إلى الأشخاص الذين يتجولون قرب مجمع الخيام في وسط المخيم، تبحث عن عبوات ناسفة وتحدق في جداريات باللون الرمادي الفحمي. هنا، على سبيل المثال، رسم فراشة.
كنتُ، هذا الأسبوع، راصدا فوق مخيم للاجئين، بواسطة طائرة بدون طيار. شاهدت امرأتين كانتا تمشيان جنبا إلى جنب، يدا بيد. شاهدتُ شابا يدخل إلى منزل شبه مدمر، ثم يختفي. ربما كان عضوا في حماس أتى لنقل رسالة إلى نفق المخطوفين، عبر فتحة خفية؟ تابعتُ، من ارتفاع 250 مترا، راكب دراجة هوائية يسير على ما كان ذات مرة شارعا في طرف الحي -نزهة ما بعد الظهر في قلب الكارثة. عند أحد المفترقات، توقف راكب الدراجة الهوائية بجانب منزل خرج منه بضعة أطفال، ثم واصل هو التوغل نحو قلب مخيم اللاجئين نفسه.
جميع الأسطح مليئة بالثقوب من جراء القصف. على جميعها براميل مياه زرقاء اللون لتجميع وتخزين مياه الأمطار. في حال العثور على برميل كهذا في الشارع، يجب نقله على الفور إلى غرفة الحرب ووضع علامة عليه باعتباره عبوة ناسفة محتملة. هنا رجل يخبز أرغفة الخبز. إلى جواره شخص نائم على حشية. ما هي قوة الاستمرارية التي تبقي الحياة مستمرة هنا؟ كيف يستيقظ شخص في قلب هذه الفظاعة ويجد القوة لينهض ويقف على قدميه؛ ليعثر على حشية ويحاول الصمود والبقاء على قيد الحياة؟ أي مستقبل يقترحه له العالم؟ الحرارة، الذباب، الروائح الكريهة والمياه المتعفنة. ثمة يوم آخر مضى.
أنتظرُ كاتبا يأتي ويكتب عن هذا، مصورا يوثق، لكن ما مِن أحد هنا سواي أنا فقط. الجنود الآخرون، إن دارت في أذهانهم أفكار هرطقة، يحتفظون بها لأنفسهم فقط. لا يتحدثون في السياسة لأن هذا ما طلبوه منهم. لكن الحقيقة هي أن هذا لا يهم شخصا أمضى مسبقا 200 يوم من الخدمة العسكرية الاحتياطية في هذه السنة. منظومة الجيش الاحتياطي تنهار. أولئك الذين يأتون، يصلون غير مبالين، تشغل بالهم مشاكلهم الشخصية أو أمور أخرى. الأولاد. الفصل من العمل. التعليم. الزوجة. أقالوا غالانت. وصل خبز الحَمام (لخمنيوت) محشوا بشرائح صدر الدجاج (شنيتسل).
الوحيدون الذين يتأثرون هنا بأي شيء هم الحيوانات. الكلاب، الكلاب. يهزون أذيالهم. يركضون في فرق كبيرة. يلعبون مع بعضهم بعضا. يبحثون عن بقايا الطعام التي تركها الجيش. هنا وهناك تجرؤ الكلاب أيضا على الاقتراب من المركبات في الظلام. تحاول سحب كرتونة الكابانو ويجري صدها وإبعادها بوابل من الصرخات. وهناك الكثير من الجِراء، أيضا.
خلال الأسبوعين الأخيرين، يبدي اليسار الإسرائيلي قلقا بشأن تمركز الجيش الإسرائيلي على المحاور العرْضية في قطاع غزة. محور نتساريم (المحور الأوسط)، على سبيل المثال. ما الذي لم يُقَل عنه؟ أنه تم شقه وتعبيده. أنه أنشئت عليه قواعد عسكرية بمستوى خمس نجوم. أن الجيش الإسرائيلي أوجد هناك لكي يبقى. وأنه على أساس هذه البنى التحتية كلها، سوف يعاد إحياء مشروع الاستيطان في قطاع غزة من جديد.
أنا لا أستهين بهذه المخاوف. ثمة ما يكفي من المجانين الذين ينتظرون مثل هذه الفرصة. لكن محوري نتساريم وكيسوفيم هما منطقتا قتال تحيط بهما تجمعات هائلة للسكان الفلسطينيين. كتلة هائلة من اليأس. الجوع. والضائقة. هنا ليس الضفة الغربية. الاستقرار في المحور تكتيكي. وأكثر من كونه لغرض الاستيلاء المدني على المنطقة، فإنه معد لضمان روتين الإقامة والحراسة للجنود المُنهَكين. القواعد والمواقع العسكرية مكونة من مبان متنقلة يمكن تفكيكها وإخلاؤها في غضون أيام قليلة على متن قافلة من الشاحنات. وهذا قابل للتغيير، بطبيعة الحال.
من الواضح لنا جميعا، من قيادة غرفة الحرب حتى الجندي الأخير، أن القيادة السياسية لا تعرف كيف تواصل وإلى أين تسير. ليست هنالك أهداف يمكن التقدم إليها وليست هنالك قدرة سياسية على التراجع والانسحاب. باستثناء جباليا، ليس هناك قتال في أي مكان تقريبا. في أطراف المخيمات فقط. وحتى هذا جزئي فقط، خوفا من وجود مخطوفين. المشكلة سياسية. لا هي عسكرية ولا تكتيكية. ولذلك، من الواضح للجميع أنه سيتم استدعاؤنا إلى جولة أخرى ولتنفيذ المهمات نفسها تماما. وسوف يستجيب جنود في الاحتياط، بلا شك، وإنما بأعداد أقل.
أين يمر الحد الفاصل بين فهم "التعقيد" وبين الانصياع الأعمى للأوامر؟ متى كسبتَ الحق في رفض أن تكون جزءا من جريمة حرب؟ هذا أيضا شأن أقل أهمية. الأكثر وأهمية هو متى يستيقظ التيار المركزي في إسرائيل. متى ينهض قائد ويشرح للمواطنين عن العمل المخزي الذي تقوم به، ومن سيكون الشخص الأول الذي يعتمر الكيباه ويصفهُ بالخائن؛ أنه قبل لاهاي، قبل الجامعات الأميركية، وقبل التنديد في مجلس الأمن، هذا -أولا وقبل أي شيء آخرـ شأن داخلي يخصنا نحن. ويخص مليوني فلسطيني.
 
*الكاتب جندي في الخدمة الاحتياطية شارك في العملية البرية في لبنان وفي قطاع غزة خلال السنة الأخيرة. الاسم محفوظ لدى هيئة التحرير.