عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    23-Jul-2021

جمالية السرد ووظيفته في رواية «غريب»

 القدس العربي-عبدالحفيظ بن جلولي

يبدو السرد في رواية «غريب» لمحمد جربوعة متقمصا شكل قصيدة تكتمل فقط في وعي الروائي، باعتباره مستوليا على شعلة الخيال من الشعر، نافثا إياها في إضبارة الحكي، فهو منحدر من الشعر إلى الرواية، متسلحا بالقصيدة التي منحها فضاء معتبرا، وهو ما يشكل جمالية تنبثق من السرد على أساس انزياحه إلى شعرية تملأ عالم الكاتب.
 
جمالية خرق أفق التوقع
 
جاء عنوان «غريب» نكرة، ينساح على كل ذات تتمثل ذاتها في «غربة» ما، وهو ما يُنتج انسجام القارئ مع مسار السرد، فالتجاوب العاطفي مع الحكاية يخلق تماثلا بين الذات القارئة والمخيالات المهاجرة من السرد، فالتنكير يعتبر تقنية سردية تنشد إنجاز جمالية تواطؤ بين القارئ والنص، في إطار منظومة أفكار تتسرب إليه انطلاقا من ثقافته وحجم خياله. تتوافق حركة القراءة مع الصفة في «غريب» على إطلاقها، إلى أن يقف القارئ عند: «غريب، كُلْ يا حبيبي» فتثبت سرديا إسمية «غريب» ، والتحول قرائيا من «الصفة» إلى «الاسم» يرسم صورة للهوية في إطار جمالية السرد التتابعي الخالص في وعي الكتابة الهادفة إلى ترميم التجريد الحكائي واستنباته في طراوة التخييل.
يطرح «غريب» سؤال الهوية الاسمية باعتبارها منطقة الحضور في العالم، وهي مثبتة وفق مسار الحكاية، «أمي لماذا سميتموني غريبا؟» يتفجر سؤال الهوية سرديا، ليؤجج مجموعة الارتجاجات الفكرية بكل طغواها الماثلة بين أزمة الهوية وواقع الاسم، مؤسسة رؤية الذات من سؤال الوجود، وهو ما يمنح بعدا جماليا في سؤال التسمية.
 
جمالية السرد وفعالية الأمكنة
 
يتأسس المكان في وعي السرد من واقعية متخيلة، يتداخل فيها المكان/الذات بالمكان/التخييل، وهو ما يحقق للقارئ الحضور في بعدين، بُعد الواقع وبُعد المتخيل، «كان الليل ينزل على المدينة» إنها مدينة كل إنسان، كل المدن تستقبل الليل، لكن سؤال هوية المدينة ينطرح ملحا، إنها لحظة التداخل الجمالي بين السرد ككلمات ناظمة لمعنى محدد في طبيعة محددة مع مكان بمعيارية مزدوجة، واقعية باعتبار لحظة حضور القارئ وغياب الكاتب، وتخييلية باعتبار النص منتَج الكاتب.
ينتج السرد تشابها في طبيعة الصمت بين «غريب» والمدينة، «هذه المدينة صامتة مثله» يعتبر صمت المدينة ناجزا فقط في وعي الشخصية الرئيسية، إذ يمكن أن ينتفي عند الشخوص الثانوية، واحتمال حضور المدينة العادية بصخبها وضجيجها المرتجى في وعي غير الوارد، هذا الانتقال بين البنيتين يمثل جمالية قابلية السرد للمساءلة قرائيا.
يستمر السرد في استنطاق جوهر المكان كعنصر وجودي مهم بعناصره، وإلا فقد جرسه في الوعي والوجدان، «ومن بعيد رمق المئذنة التي تطيره رائعا عبقا.. وقام ليتوضأ ويصلي المغرب». رؤية المئذنة تحدث انفعالا في نفس «غريب» وكأنه يكتشف البعد الحركي للمكان، من خلال صوت الأذان، الذي يمثل في وجدان المسلم انتقالا من واقع التاريخ إلى شفاف الغيب، وهو ما جعل «غريب» «رائعا عبقا» والحركة تخرج عن نطاق المحسوس إلى المجرد، تَحْدُثُ روحيةً وجدانيةً خارج مادية الجسد. يختزن السرد هذه الشحنة التعبيرية التي تمنح القارئ إحساسا بالمكان والزمن الغيبيين، وهو ما يفجر عنصر الانتقال بالمعنى في جمالية السرد.
تستمر الجمالية السردية في التأثير عبر رنين الدلالة في إبراز عنصر المكان باعتباره رديفا للذات وأساس هويتها، لأنه فضاء التاريخ، «روح الوطن لم تتغير، رغم لمسات جديدة في العمران والمقتنيات والمظاهر» انتقال من المكان المقيد إلى المكان المطلق في معنى «الوطن» بعناصره المادية، حيث ينبثق الوطن في ذاكرة أب «غريب» العائد من المنفى في سويسرا، وإشارة عميقة إلى المقابلة بين مكانين، «سويسرا» حاضنة الحداثة، و»الوطن» روح الكينونة الذي تغيرَ لكن لم يفقد روحه، فالوطن يمثل رمز أمثل وأعمق للهوية، وهو ما صار بالسرد إلى جمالية هوياتية.
 
الوعي بالماضي كسند معنوي مكثف بالحدث الدال الذي يساعد على رؤية المستقبل وترسيخ القدم على أرض الحاضر، والوظيفة الجمالية للسرد ارتكزت على صورة الأب وهي تفجر مخزون الذاكرة المساعد على الاستمرار في الراهن واستبصار المستقبل.
 
الجمالية بين الذاكرة والأبوية
 
تُفتتح الرواية بمعنىً يعود بالشخصية الرئيسية من الماضي، «يتذكر وصية أبيه» إذ يقع الوعي بالراهن من خلال الماضي، باسترجاع صورة الأب. تمتحن «الوصية» جدوى الثبات على ما وضعه الأب ذات زمن في وعي البنوة. تضع هذه الحركة السردية المعالم الأساسية لرسوخ قدم الطفل في العالم، فالذاكرة لا تمثل فقط خزان الذاكرات، بل هي معْلمة لرؤية المستقبل، جذرها الماضي ورهانها الحاضر وفضاءها المستقبل، ولهذا جاء المعنى في النهاية: «قصيدة رائعة.. ابتدأها أبوه وأكملتها الأقدار» كتتمة للبداية المفعمة بالذاكرة، فمفردة «ابتدأها» تحيل إلى الماضي، لا بتجاوزه لكن باعتباره عتبة لكل البدايات، فمفردة «وأكملتها» تؤدي معنى الاستمرار في الذاكرة وفي الراهن، وفق منظومة قيمية أبوية، تبني الرؤية على الحوار وليس على الهيمنة، أو ما يسمى بــ»البطريركية» فالذاكرة تمثل البداية واستعادتها تعني الاستكمال.
يهب السرد هذه الفرضية في بنية الاستكمال أو التواصل حينما تأتي الجملة الإخبارية لتؤكد الطبيعة المعتبرة لمساحة معينة من أيام «غريب»: «كانت أياما اتسع فيها باب غريب إلى عالم ذكرياته وتأملاته» فالعودة إلى الذكريات سرديا، تكون مجرد التفاتة عابرة لو لم تتضمن الجملة معنى «التأمل» فـ»ذكرياته وتأملاته» فتحت المعنى على العودة إلى الذاكرة لكن بقصد، لأن تأمل الأشياء يفرز التفكير، ومن ثمة إنتاج الرؤية للمسار الوجودي، وهو ما يجعل السرد أفقا جماليا منتجا لمعنى حركة الشخصية بين الراهن والماضي.
 
السرد بين جماليتي الزمن والذاكرة
 
يمثل الزمن الإطار الذي تتشكل فيه الذاكرة، تستقي من أحداثه مادتها، فيتأسسان كمحورين للوجودية في مسار حركة الإنسان الناسجة للتاريخ، والقلقة والمتسارعة في تحقيق الرغبة في المستقبل «ويتمنى المرء لو يتاح له جر عقارب الساعة إلى المستقبل بالسرعة التي يتسنى له بها قتل وحش الانتظار». تحكم وجودية الإنسان متواليتا الزمن والانتظار، ويتأسس، هو، ضمن هذه الجدلية المناهضة لخلوده، فهو من جهة يساير تعاقب الزمن منتظرا، ومن جهة أخرى، تتملكه الرغبة في تعطيل حركة الزمن، آملا في استدامة وجوده في الحياة، وبين هاتين الرغبتين يتشكل التاريخ، تنبثق جمالية السرد في تشريع التخييل على حركة الإنسان المبنية على التمني، «ويتمنى المرء» وفي هذه الحركة تتركز معاني الأمل وعمل العقل من أجل تكريس وجود الإنسان في الحياة وتحقيقا للحركة في التاريخ.
يتأسس التاريخ مؤثثا لا بالمنجز الإيجابي وحده، لكن بتعثر المسار الإنساني داخل بوتقة المأساة أيضا، فهو يتحرك من أجل بناء الواقع والمستقبل، «كانت المسافة بينهما تختزل أحقابا من الاغتراب والشوق والفراق والعذاب والظلم». جاء هذا الإثبات للكشف عن واقع الحال في العلاقة بين وضعيتي الأب والابن، ضمن مسار زمني فرقت فيه بينهما أشياء الحياة غير المنتظرة، فصور السرد لحظة لقائهما بعد فرقة وهما يقتربان من بعضهما بعضا وكأنها تختزن كل الوضع العاطفي الذي تداخلت فيه مشاعر «الاغتراب والشوق والفراق والعذاب والظلم» تلك هي مسافة الإنسان، وهو يبني حلم وجوديته الفاعلة والمؤثرة على وجه الأرض، لا تثنيه العوائق، ولا يستسلم للصعاب، أو ما يعكر صفو المشاعر، يتخطى بعزمه كل عثرة ليعانق المستقبل، أي تلك اللحظة التي كان يتمنى لو يجر الزمن استعجالا للوصول إليها كمحطة لإنجاز التفوق، وهو ما تختزنه شحنة السرد في الجملة المذكورة من جمالية الحركة في التاريخ الموشومة بالفرح والمأساة.
 
الوظيفة الجمالية للسرد
 
تتشكل الوظائف السردية من خلال حركة الفواعل السردية لبناء الرؤية والمعنى، وجمالية السرد في رواية «غريب» حققت الرؤية للذات، انطلاقا من سؤال الوجود، الكامن في جملة العنوان، حيث المفارقة تتكرس من خلال خرق أفق توقع الصفة وثبوت الاسم سرديا.
التداخل بين المكان/الذات والمكان/المتخيل، فالقارئ حالة من التجربة على حواف النص، أي إنه يمارس نوعا من التحايل على النص، باحثا عن نفسه في بعض مستويات القراءة، فيلتقي المخيالان، مخيال النص ومخيال القراءة، لتتقارب المواقع، فتصبح عناصر النص المخيالية ذاتها عناصر القارئ الواقعية.
الوعي بالماضي كسند معنوي مكثف بالحدث الدال الذي يساعد على رؤية المستقبل وترسيخ القدم على أرض الحاضر، والوظيفة الجمالية للسرد ارتكزت على صورة الأب وهي تفجر مخزون الذاكرة المساعد على الاستمرار في الراهن واستبصار المستقبل.
أسست علاقة الزمن بالذاكرة في السرد لوظيفة جمالية ترتكز على الانتظار كمسافة لتكريس الأثر في الوجود، وما يتعلق به (الانتظار) من أمل واشتغال عقلي ضمن بؤرة التعب الوجودي المكثف بالاغتراب والعذاب والظلم، وهي العناصر المصاحبة للإنسان وهو يبني واقعه على الأرض.
 
كاتب جزائري