عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    24-Mar-2025

تخيل لو أن كل الصامتين عن الفظائع في غزة يرفعون الصوت

 الغد-ترجمة: علاء الدين أبو زينة

‏أوين جونز‏* - (الغارديان)19/3/2025
ليس ثمة جريمة أخرى في التاريخ قام ضحايا بتوثيقها بمثل هذه الطريقة المثالية كما حدث في غزة. ومع ذلك، ما يزال التقاعس الدولي والرقابة على الناشطين هما السائدان.
 
كانت الإبادة الجماعية التي تُمارسها إسرائيل في حالة توقف مؤقت فحسب. وبالنسبة للفلسطينيين الذين أيقظتهم ليلة الإثنين موجة شرسة من الغارات الجوية، لم يكن استئناف القتل أقل إثارة للصدمة مما كان دائمًا. أكثر من ‏‏400 شخص‏‏ -معظمهم من الأطفال- ذُبحوا في غضون ساعات، في هجوم قيل إنه حصل على "الضوء الأخضر" ‏‏من دونالد ترامب‏‏. وسرعان ما جاءت في أعقاب هذه الفوضى أوامر الإخلاء -أي التهجير القسري- وهو ما زاد من احتمال تجديد العمليات البرية. وعُذر إسرائيل؟ ادعاء ملفق بأن "حماس" لم تلتزم بشروط ما يسمى باتفاق وقف إطلاق النار الذي أُبرم في كانون الثاني (يناير) -الذي انتهكت إسرائيل نفسها شروطه مرة تلو المرة.‏
في أعقاب الهجمات، ‏‏ذكرت شبكة (سي. إن. إن) ‏‏أن الهجوم الإسرائيلي ألقى "بظلال من الشك على وقف إطلاق النار الهش". ولا تكفي كلمة "أورويلي" حتى للبدء في وصف مثل هذا التأطير. كان ما حدث هو أنه لم يكن هناك "وقف لإطلاق النار" على الإطلاق -ليس إذا كان تعريفك لهذه العبارة يعني الكف عن إطلاق القذائف والرصاص. وقد ذكرت الأخبار أن ‏‏إسرائيليًا واحدًا‏‏ قُتل في غزة خلال "وقف إطلاق النار" -وهو مقاول قُتل على يد الجيش الإسرائيلي الذي ظن أنه فلسطيني. وذكرت أن ‏‏150 فلسطينيًا‏‏ قتلوا في غزة خلال "وقف إطلاق النار"، بينما ذُبح عشرات آخرون في الضفة الغربية.‏
‏في ما يلي مثال على كيفية الانغماس في العنف الإسرائيلي إلى ما لا نهاية وتجريد الحياة الفلسطينية من أي معنى. لو أن جنديًا إسرائيليًا واحدًا فقط قُتل على يد أحد مقاتلي "حماس"، أتوقع أن العديد من السياسيين ووسائل الإعلام كانوا سيعلنون على الفور أن وقف إطلاق النار انتهى. هذه الرواية نفسها هي السبب في أننا نُدفع إلى الاعتقاد بأن السلام كان سائدًا ‏‏قبل 7 تشرين الأول (أكتوبر)‏‏، حتى عندما كان 238 فلسطينيًا -44 منهم أطفال‏‏‏‏- قد قُتلوا في الأشهر التسعة التي سبقته.‏
يغلب أن تسأل الأجيال القادمة: "كيف تم تسهيل جريمة فاحشة تنطوي على كل هذه الفظائع لكل هذه الفترة الطويلة؟". بعد كل شيء، بفضل الهواتف المحمولة والإنترنت، لم يتم توثيق أي جريمة أخرى في التاريخ بهذه الجودة على يد ضحاياها كما حدث مع الجرائم في غزة. كما فعلوا على مدار 529 يومًا، ينشر الناجون في غزة الأدلة على الإبادة التي تُمارس ضدهم على وسائل التواصل الاجتماعي، آملين -عبثًا- إيقاظ ما يكفي من الضمائر لإنهاء فوضى الإبادة الجماعية: طفلة ميتة في رداء بألوان قوس قزح؛ أب حزين يداعب ضفيرة ابنته المقتولة للمرة الأخيرة؛ عائلات بأكملها مسجاة في الأكفان وقد محيت سلالاتها تمامًا من السجل المدني.‏
‏ليست هناك جريمة في التاريخ أثبتها الخبراء كما حدث مع هذه الجريمة. في الأسبوع الذي سبق كتابة هذه السطور، ‏‏فصَّل تقرير جديد للأمم المتحدة‏‏ العنف الجنسي والإنجابي الذي تمارسه إسرائيل ضد الفلسطينيين: قتل النساء الحوامل؛ واغتصاب المعتقلين الذكور بأشياء تتراوح من الخضار إلى عصي المكانس؛ ‏‏وتدمير عيادة التلقيح الاصطناعي‏‏ بما فيها من 4.000 جنين. وقد وصف التقرير حرب إسرائيل على قدرة الفلسطينيين على الإنجاب بأنها "أعمال إبادة جماعية".‏
‏وهناك أمثلة لا حدود لها على أفعال أخرى من هذا القبيل. يفصّل تقرير تلو الآخر تدمير إسرائيل للبنية التحتية المدنية -المنازل والمستشفيات والمدارس والجامعات والمساجد والكنائس؛ وقضاءها على ‏83‏‏ في المائة من جميع الحياة النباتية، ‏‏وأكثر من 80 في المائة‏‏ من الأراضي الزراعية، ‏‏و95 في المائة من الماشية‏‏؛ وتدمير أكثر من ‏‏80 في المائة من البنية التحتية للمياه‏‏ والصرف الصحي. لقد جعلت إسرائيل غزة، عمدًا وبشكل منهجي، غير صالحة للسكن. هذا هو السبب في أن هناك إجماعًا بين المتخصصين المعنيين -من "منظمة العفو الدولية" إلى ‏‏باحثين مثل عومير بارتوف‏‏، الأستاذ الإسرائيلي الأميركي المشهور عالميًا في دراسات الهولوكوست والإبادة الجماعية- على أن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية.‏
‏وليست هناك جريمة اعترف بها مرتكبوها أنفسهم بارتكابها كما حدث في هذه الحرب. قبل 17 يومًا، أعلنت إسرائيل فرض حصار كامل على جميع المساعدات الإنسانية التي تدخل غزة، وهو انتهاك لا جدال فيه للقانون الدولي. وفي الأسبوع الماضي، ‏‏أعلن وزير‏‏ البيئة الإسرائيلي أن "الحل الوحيد لقطاع غزة هو إفراغه من الغزيين"، وهو واحد من تصريحات لا حصر لها عن نوايا إجرامية وإبادية أدلى بها قادة ومسؤولون إسرائيليون في الأشهر السبعة عشر الماضية. لم تبذل إسرائيل أي محاولة لإخفاء اعتقادها بأن السكان المدنيين مذنبون جماعيًا -"وحوش بشرية" لا يستحقون سوى "الأذى" و"الجحيم"، كما قال ‏‏أحد الجنرالات الإسرائيليين‏‏ في البداية- أو نيتها ‏‏تدمير قطاع غزة‏‏ بالكامل. وقد نشر الجنود الإسرائيليون جرائمهم ‏‏باحتفال على الإنترنت، وهم يصيحون ويهتفون ويغنون بينما يفجرون منازل المدنيين ويسيئون معاملة المعتقلين.‏
كيف يمكن لفحش تم توثيقه وإثباته والاعتراف بارتكابه -فحش تسهله الأسلحة الغربية والدعم الدبلوماسي الغربي- أن يستمر كل هذه الفترة الطويلة؟ لا يمكن لأحد يعمل في السياسة الغربية أو في الأوساط الإعلامية الغربية أن يقول بشكل معقول: "لم أكن أعرف ما الذي يحدث حقًا".‏
‏في عالم عقلاني، سوف يُنظر إلى مشجعي هذا الرجس على أنهم وحوش ليس لها مكان في الحياة العامة. لا يمكنك، بعد كل شيء، تبرير الإبادة الجماعية في رواندا وتوقُّع أي شيء آخر غير أن تكون منبوذًا. لكنّ أولئك الذين عارضوا انحطاط إسرائيل وفسادها الأخلاقي هم الذين تم ‏‏تجريدهم‏‏ من منصاتهم، وحصارهم، ‏‏وفرض الرقابة عليهم،‏‏ ‏‏وإقالتهم من أعمالهم‏‏ ‏‏واعتقالهم‏‏ -وكما في حالة طالب جامعة كولومبيا محمود خليل، احتجازهم وربما ترحيلهم‏‏.‏
بقلبه العالم رأسًا على عقب، حقق الهجوم الأكثر وقاحة ومنهجية على حرية التعبير في الغرب منذ المكارثية هدفه الأساسي: فرض الصمت واسع النطاق عن جريمة ذات أبعاد تاريخية بين أولئك من أصحاب السلطة والنفوذ. ثمة سياسيون وصفوا على هذه الجريمة بشكل لا لبس فيه بما هي، لكنهم أصبحوا مهمشين ‏‏ومضبوطين. وهناك ‏‏صحفيون مهمون ‏‏يقولون الحقيقة‏‏، لكنهم قليلون. وثمة مشاهير يستخدمون منصاتهم لقول الحقيقة -مثل غاري لينيكر ‏‏وبالوما فيث‏‏ ‏‏وخالد عبد الله‏‏ ‏‏وجولييت ستيفنسون‏‏- لكنهم معزولون.‏
‏الصامتون خائفون على وظائفهم ومصادر دخلهم، وهم لا يفعلون بلا مبرر. لكن الغزيين الناجين يخافون من الجوع والمرض، والحرق أحياء والاختناق تحت الأنقاض. إن الصمت في مواجهة الظلم هو دائمًا خطيئة؛ عندما تسهِّل حكومتك إبادة جماعية، فهذه جريمة أخلاقية. وفي كل واحدة من فظائع في التاريخ، كان الصامتون دائمًا لاعبين رئيسيين.‏
‏لو أن كل‏‏ ‏‏أولئك الذين يعرفون أن شرًا فظيعًا يُرتكب في غزة رفعوا أصواتهم، ما الذي كان ليحدث الآن؟ سوف يستقيل وزراء من الحكومات. ولن تُعنوِن الصحف والنشرات الإخبارية بسرد الفظائع الإسرائيلية فحسب، بل ستضعها في مكانها بشكل صحيح باعتبارها جرائم شنيعة، مقرونة بقرع أجراس الإنذار -ينبغي القيام بشيء جذري لوقفها. سوف يصبح من المستحيل تجاهل المطالب ‏‏بفرض حظر على الأسلحة‏‏ وفرض عقوبات على إسرائيل. وبدلاً من مطاردة أولئك الذين يعارضون الإبادة الجماعية وتشويههم، سيكون المتواطئون في الإبادة الجماعية هم الذين سيتم إخراجهم من الحياة العامة.‏
‏لا شك في أن الكثير من الصامتين يشعرون بالذنب -ويجب أن يفعلوا. فقد لعبوا، من خلال جبنهم، دورًا محوريًا في تطبيع بعضٍ من أسوأ أنواع الهمجية في القرن الحادي والعشرين. ولا يعني كسر الصمت التباكي وتكرار العبارات المجوفة والتفاهات عن مدى حزنك بشأن موت المدنيين: إنه يعني تسمية الجريمة باسمها، والمطالبة بمحاسبة أولئك الذين سهلوا ارتكابها. إن الوقت ينفد بالنسبة لسكان غزة المعذبين والمشوهين والجائعين. وهو ينفد كذلك بالنسبة لأولئك الذين يريدون إنقاذ ضمائرهم.‏
 
*أوين جونز Owen Jones: كاتب وصحفي وناشط سياسي بريطاني، وُلد في العام 1984، ودرس التاريخ في جامعة أكسفورد. عمل باحثًا برلمانيًا قبل أن يصبح كاتبًا في "الغارديان"، وله مساهمات في صحف ومجلات عدة. اشتهر بكتبه مثل "تشافز: شيطنة الطبقة العاملة"؛ و"المؤسسة: كيف يفلتون بفعلتهم"، حيث يناقش قضايا الطبقة العاملة ونفوذ النخب. يدير برامج عبر الإنترنت وينشط في قضايا العدالة الاجتماعية. حصل على جوائز عدة تقديرًا لعمله الصحفي.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: Imagine if all those who are silent about the terrible evil being committed in Gaza spoke up