عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    09-Sep-2025

الأمة التي تحترف الهاشتاغ وتستقيل من التاريخ*ا. د. هاني الضمور

 الغد

في زمنٍ ليس بعيداً، كان الشارع العربي يتنفس السياسة كما يتنفس الهواء. كانت كلمات مثل التحرير والكرامة والوحدة تتردد في البيوت كما الأناشيد، وكانت الجامعات منابر للنقاش والفكر والحلم بالتغيير. اليوم تغير كل شيء. صار السؤال السياسي الأكثر تداولاً هو: ما الترند هذا الصباح؟ ومن كان يكتب شعارات على جدران المدن، بات يكتفي بكتابة وسم على تويتر ثم ينام مطمئنا أنه أنجز واجبه الوطني.
 
 
لقد أصبحنا بارعين في التفريغ العاطفي، نصرخ في الفضاء الرقمي ثم نصمت في الواقع. نتصارع في التعليقات أكثر مما نتصارع في الشوارع، ونحسم معاركنا الكبرى في ساحات افتراضية. حتى فلسطين، التي كانت ذات يوم القضية المركزية والرمز الجامع، صارت اليوم ضيفا ثقيلاً على الموائد السياسية. نذكرها في المناسبات الرسمية، نلوح برايتها في الاحتفالات، ثم نعود سريعاً إلى حياتنا الاعتيادية كأن شيئاً لم يكن.
كان الأجداد يحلمون بوطن عربي كبير، بينما أقصى ما جمعنا اليوم هو مجموعة على واتساب اسمها «لمّة العرب». هناك نتبادل الطرائف ونناقش أسعار العقارات ومباريات الكرة، ونادراً ما نقترب من السياسة إلا على سبيل التندر. الوحدة التي كانت مشروعاً تحوّلت إلى نكتة، والملعب صار أكثر تأثيرا من البرلمان.
غير أن الكارثة الأكبر ليست فقط في ولاة الأمر الذين أتقنوا فن المنع، بل في الشعوب التي أتقنت فن التبرير، وفي النخب الأكاديمية التي استسلمت للصمت. الأستاذ الجامعي الذي كان يوماً رمزاً للوعي والتمرد، صار في حالات كثيرة موظفاً ينتظر ترقيته، أو مكرراً لخطاب رسمي داخل قاعات الدرس. من كان يعلم طلابه معنى الحرية صار يحذّرهم من مجرد السؤال، ومن كان يُفترض أن يقود حركة التنوير صار حارساً للنصوص القديمة ومروّجاً لثقافة الخضوع. وهكذا فقدت الجامعة دورها كعقل المجتمع، لتتحول إلى جدار آخر من جدران الصمت.
ولو نظرنا إلى أولوياتنا، سنكتشف أننا شعوب تمارس الهروب الجماعي. نتابع برامج المواهب بشغف أكثر مما نتابع أخبار الحروب، ننشغل بأسعار الهواتف الذكية أكثر مما ننشغل بأسعار الحرية، ونضحك على النكات السياسية وكأن السخرية تكفي بديلاً عن الفعل. أما الأستاذ الجامعي الذي يُفترض أن يكون مرشداً للأجيال، فقد استسلم إما للبيروقراطية أو للخوف أو للإغراءات. كثيرون منهم صاروا كتبة في دفاتر السلطة، يجملون الهزيمة بخطاب أكاديمي متأنق، يبيعون اللغة الكبيرة في قاعاتٍ صغيرة، بينما الواقع ينهار في الخارج.
الأدهى أن ولاة الأمر لم يعودوا بحاجة إلى مراقبتنا، فقد تولينا المهمة بأنفسنا. الرقابة الذاتية أصبحت ديناً يومياً. قبل أن نكتب تغريدة نفكر: هل هذا مسموح؟ هل سيجر علينا المشاكل؟ حتى الجامعات، التي كانت منابر للنقاش الحر، صارت بدورها تمارس المنع الذاتي. الطالب يخاف من أستاذه، والأستاذ يخاف من إدارته، والإدارة تخاف من الوزير، والوزير يخاف من الكرسي. سلسلة طويلة من الخوف جعلت التفكير الحر استثناء لا قاعدة.
في زمن مضى، كان الشاب يحلم بالشهادة في سبيل الأرض، أما اليوم فهو يحلم بجهاز هاتف جديد أو بعقد عمل مؤقت في الخارج. الثقافة الاستهلاكية هزمت ثقافة المقاومة، وصارت قيمتنا تُقاس بما نملك لا بما نؤمن به. حتى الأستاذ الجامعي، الذي كان يوماً منارة للمعرفة، صار في كثير من الأحيان مجرد بائع درجات أو موزع شهادات. غاب الصوت النقدي، وحضر الصوت الوظيفي.
ربما أقسى ما يمكن أن يقال عنا اليوم أننا شعوب استقالت من التاريخ بمحض إرادتها. لسنا مجرد ضحايا، بل شركاء في هذه الاستقالة. تركنا الساحة لولاة الأمر، وأغلقنا أفواهنا بالرضا أو باللامبالاة. الجامعات التي كان يُفترض أن تصنع جيلاً يقاوم، صارت تصنع جيلاً يحلم بالهجرة. أساتذة كان يُنتظر منهم أن يزرعوا الأسئلة في عقول الطلاب صاروا يوزعون عليهم إجابات جاهزة.
نحن الأمة التي تحترف الهاشتاغ، وتتفنن في إنتاج الخطابات، لكنها تفشل في حملها إلى النهاية. كنا نملك مشروعاً، ثم فقدنا البوصلة، ثم استسلمنا للهامش. قد نلوم ولاة الأمر وقد نلعن الظروف، لكن الحقيقة الأشد مرارة أننا نحن أيضاً مسؤولون، وأن أساتذتنا الذين كان يفترض أن يقودوا مسيرة التغيير أصبحوا جزءاً من جوقة الصمت. لقد حوّلنا الوطن إلى ذكرى، والقضية إلى أرشيف، والمستقبل إلى نكتة. وهكذا يمكن أن يُختصر تاريخنا الجديد في عبارة واحدة: هنا كانت أمة.. والآن هنا مجرد مجموعة هاشتاغات.