الراي
في وقت مضى خلال الستينيات والسبعينيات والثمانينيات، وربما تسعينيات القرن الماضي كانت القاعات تمتلئ بالحشود، وتتزاحم أقدام من يرغبون بشوق الاستماع الى محاضر أو أكثر، يشاركون في ندوة ثقافية أو سياسية، ويزداد شغف هؤلاء اذا كان المحاضر له قيمة سياسية أو فكرية وثقافية كبيرة، وكان بضمن ذلك جماهير غفيرة تحضر للاستماع الى أمسيات شعرية يشارك بها شعراء كبار.
وفي هذه الأيام ومن خلال مشاهداتي ومشاركتي الشخصية، بحضور بعض الندوات والمحاضرات، وحتى حفل توقيع بعض الكتب لمؤلفين بارزين، يبدو المشهد مختلفاً بصورة لافتة، اذ لم يعد الاهتمام بحضور هذه الفعاليات كما كان سابقا، وجمهور أي فعالية منها يعد بعشرات الأشخاص في أحسن تقدير، بل أن في بعضها لا يتجاوز الجمهور أصابع اليد الواحدة.
وثمة أسباب جوهرية لذلك، فبالاضافة الى التكرار الممل وعدم وجود جديد، لما يقال في هذه الفعاليات وعدم احساس الجمهور، بقيمة ثقافية وفكرية مضافة في حال الحضور، ورحيل رموز كبيرة جاذبة للجمهور، فضلا عن اضاعة وقت كبير في زحمة المرور، ثمة مياه غزيرة جرت أسفل الجسور وحدثت تحولت كبيرة.
ومنذ بداية القرن الحادي والعشرين، انتشرت في العالم «ثورة الانترنت» وما أفرزته من منصات عديدة، تسمى وسائل التواصل الاجتماعي وأبرزها «الفيسبوك، وواتساب، ويوتيوب، وانستغرام، وماسنجر، و«زوم» و«وي شات»، و«تيك توك» ومنصة «اكس»، التي كانت تسمى تويتر سابقا.
ومن خلال هذه المنصات أصبح الكثيرون يتفاعلون عن بعد مع المحاضرات والندوات، والحلقات النقاشية التي تنظمها القنوات الفضائية، أو عبر اليوتيوب، بل أن بعض الضيوف يشاركون في هذه البرامج والندوات، عبر مسافات بعيدة من مختلف القارات، وحتى بعض المؤتمرات السياسية أصبحت تعقد عن بعد.
ومن المفارقات الطريفة واللافتة، أن بعض الجاهات التي تذهب لخطبة عروس، أو من يحضرون حفل زفاف يزيد عددهم بكثير ويقدر بمئات المدعوين، فيما رواد الندوات والمحاضرات الثقافية والفكرية يعدون بالعشرات، وذلك يطرح سؤالا مهما هل يعتبر ذلك عزوفاً عن الثقافة؟ أم لأن هذه المناسبات تقدم خلالها أطباق الحلوى «الكنافة»! لا شك أن هذه الظاهرة تعكس في أحد جوانبها، ما أصبح يوصف بـ«عصر التفاهة»!، وتبدو أحد تجلياته واضحة فيما يسمون بـ«المؤثرين» عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ذلك أن بعض هؤلاء يتابعهم عبر صفحاتهم على الفيسبوك أو منصة «اكس» وغيرها من المنصات، عشرات الالاف وبعضهم ملايين الأشخاص، ليس لأنهم يجترحون المعجزات وابداعات خارقة، بل لكونهم يقدمون وجبات دسمة من التفاهة! وما يثير الدهشة والاستغراب على سبيل المثال، أن سيدة أو فتاة تكتب عبر حسابها جملة سخيفة، كأن تقول إن «لوني المفضل هو الأزرق»، وتضع صورة لها وهي ترتدي فستاناً أزرق اللون، فتلاحظ أن ما نشرته يحظى باهتمام منقطع النظير، من خلال عشرات آلاف الليكات وآلاف التعليقات التي تمدحها! لست أعني في هذه المقالة نعي الثقافة والفكر، فهناك أعداد غير قليلة لا تزال تهتم في هذا الشأن، والكتب لا تزال تجد من يقرأها، وثمة مؤسسات عديدة تعنى بذلك وتشجع على القراءة والثقافة، لكن المشكلة أنه اختلط حابل الثقافة والفكر بعالم السياسة، وكما هو معروف فان العمل السياسي مرتبط بمحاولات السياسيين تسويق الكذب ! سواء تجلى ذلك خلال الحملات الدعائية في الانتخابات البرلمانية والرئاسية، حتى في الدول الديمقراطية يكذب المرشحون على الناخبين، ذلك أن السياسة والكذب وجهان لعملة واحدة! من الصعب اعادة عقارب الساعة الى الوراء، فما أفرزته ثورة الانترنت والان «الذكاء الاصطناعي»، أصبح جزءا من حياتنا اليومية، ولا يمكن تجاهل ما نتج عن ذلك من معلومات ومعارف وسلوكيات وتداعيات.