عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    27-Jul-2020

لماذا تختفي استطلاعات الرأي في الجزائر؟ - ناصر جابي

 

القدس العربي - قبل الخوض في الإجابة عن هذا السؤال المهم، أفضل أن أتوقف عند محطة تاريخية مهمة لفهم سر غياب استطلاعات الرأي عندنا في الجزائر، ودلالات هذا الغياب ونتائجه التي يمكن أن تكون وخيمة، كما كان الحال في هذه المحطة التي سأروي بعض تفاصيلها، غير المعروفة عند الرأي العام الذي يفترض أنه هو موضوع هذه الاستطلاعات.. تتكفل بقياسه والتعرف عليه وعلى تحولاته وما يطرأ عليه من جديد، مع تطور المجتمع من كل النواحي.
لا يعرف الكثير من الجزائريين أن النظام السياسي كان قد بادر بإنجاز استطلاع رأي قبل تنظيم الانتخابات التشريعية لسنة 1992، التي كانت محل الكثير من الصراعات، باعتبارها اول انتخابات تعددية، بعد المصادقة على دستور شباط/فبراير 1989. انتخابات لم تكن معروفة النتائج كما كان الأمر مع ما سبقها من انتخابات أحادية محسومة النتائج مسبقا، اكتسب النظام خبرة طويلة في تنظيمها والتعامل السياسي مع نتائجها.
المعطيات تقول، إن رئيس الحكومة في تلك الفترة طلب من وزيره للتعليم العالي أو العكس ـ المعلومات، لا تحدد بالضبط من كان المبادر بالمشروع ـ المهم تم الاتفاق على إنجاز استطلاع رأي لقياس توجهات الرأي العام في تلك الفترة المضطربة، التي كانت قد شهدت إضرابا كان أقرب للعصيان المدني، بادرت به الجبهة الإسلامية للإنقاذ. في وقت زادت فيه الصراعات من كل نوع بين النخب الرسمية داخل مؤسسات النظام. وبينها وبين النخب التي أفرزتها هذه التجربة التعددية المضطربة، وعلى رأسها نخب الإسلام السياسي الجذري، الذي مثلته جبهة الإنقاذ.
في غياب مراكز بحث متخصصة في إنجاز مثل هذه الاستطلاعات، تم الاتفاق مع مركز بحث عمومي، لم يكن يملك أي تجربة في إنجاز مثل هذه الاستطلاعات. مخرجات هذا الاستطلاع بينت أن أصوات الجزائريين في هذه الانتخابات التعددية الأولى ستكون مقسمة على ثلاث قوى سياسية أساسية بهذا الشكل.. ثلث للمستقلين وثلث لجبهة التحرير وثلث لجبهة الإنقاذ. نتائج استطلاع تكون قد أقنعت الرئيس وحاشيته على الذهاب إلى الانتخابات، التي قرر انه يمكن التحكم السياسي فيها. باعتبار أن ثلث الأصوات التي ستحصل عليها جبهة الإنقاذ لن تكون خطرا فعليا على هذه التجربة البرلمانية الأولى، التي تؤكد الكثير من
 
المؤشرات أن الرئيس
 
وجزءا من النظام السياسي كان صادقا في التعامل معها. بالطبع وكما هو معروف، النتائج لم تكن على هذا النحو، بل العكس تماما، بعد أن فازت الجبهة الإسلامية بأغلبية الأصوات في الدور الأول، لتلغى نتائج الانتخابات وتدخل الجزائر في نفق الحرب الأهلية. المعطيات حول هذا الاستطلاع التاريخي لا تقول لنا بالضبط من هو الطرف الذي يكون قد استعمل الآخر، بعد رواج فكرة تقسيم أصوات الجزائريين في هذه الانتخابات التشريعية الحاسمة إلى ثلاثة اقسام متساوية بين الجبهتين والمستقلين، الذي كان التعويل عليهم مهما من الناحية السياسية، لسد ضعف نتائج جبهة التحرير، وقضم جزء من أصوات الإسلاميين في اول تجربة انتخابية، داخل سوق سياسية مضطربة وغير معروفة التوجهات، لنظام سياسي ابتعد بشكل مخيف عن نبض الشارع. وهل كانت فعلا هذه النتيجة هو ما توصل إليه الاستطلاع واقنع صاحب القرار السياسي به، أو العكس أن الفكرة كانت لصاحب القرار نفسه، الذي يكون قد سوقها لمركز البحث لمنحها الغطاء العلمي المطلوب، أو أن اللعبة كانت أصلا خدعة داخل مؤسسات نظام سياسي لم يتقبل فكرة التعددية السياسية، التي كان خائفا منها ومن نتائجها السياسية المحتملة. نظام تعود ـ عكس ما هو شائع – على تنظيم استطلاعات رأي بواسطة مؤسساته الأمنية، وأذرعها البحثية، بقيت قاعدة عامة غير معروفة النتائج، وغير متداولة حتى بين المسؤولين.
 
مجتمعاتنا لا يتم فيها الاعتراف بوجود رأي عام مستقل بتوجهات سياسية متنوعة، وقابلة للتغيير مع الوقت
 
أسئلة تعود بنا إلى مكانة الاستطلاعات، لفهم غيابها في الجزائر كجزء من حداثة سياسية مازالت غائبة عن المشهد السياسي الوطني، كان يفترض أن تتكفل داخله مراكز بحث متعددة ومستقلة فعلا، بالتعرف على الرأي العام كموضوع قابل للقياس، بل والتنبؤ بتوجهاته كما هو حاصل في الكثير من التجارب الحديثة، التي أصبح التنبؤ بنتائج الانتخابات فيها علما في غاية الدقة. بعد التحسن في أدوات القياس وفي خبرة أصحاب المهنة، التي عرفت تطورا كبيرا منذ بداية ظهورها في التجارب الديمقراطية المعروفة انطلاقا من الولايات المتحدة الأمريكية. عكس ما هو حاصل عندنا وعند الكثير من التجارب التي تشبهنا سياسيا، التي لم تقنن بشكل واضح داخلها عملية الاستطلاع كسوق وكمؤسسات بحث ومهنة قائمة بذاتها يجتاحها التسيير العصري للمجتمع. مجتمعات لا يتم فيها الاعتراف بوجود رأي عام مستقل بتوجهات سياسية متنوعة، وقابلة للتغيير مع الوقت، تقوم الاستطلاعات بقياسها بواسطة تقنيات معروفة، لم تعد تقتصر على قياس التوجهات السياسية فقط، بل امتدت إلى القيم الدينية والثقافية والموقف من المؤسسات والعلاقات الدولية وغيرها من المواضيع المهمة، التي يحتاجها صاحب القرار قبل أن يتخذ قراراته، كمادة استشرافية لابد منها يتم تحيينها دوريا حتى لا تكون هذه القرارات معاكسة لتوجهات الرأي العام نفسه.
حداثة سياسية مازالت بعيدة رغم البهرجة المؤسساتية، يمكن أن نستشف بعض حقائقها من هذه الصورة التي عشتها منذ سنوات 2012 داخل مقر حزب سياسي كبير، ارتأيت أنا وزميل مشارك معي في بحث حول الانتخابات التشريعية، اعتمدنا فيها على نتائج استطلاعات رأي، نيتي كانت أن نعرض امام قيادة الحزب- وغيره من الأحزاب الأخرى التي تقبل باللقاء معنا – نتاج هذه الاستطلاعات، التي بقيت مجهولة في الغالب لدى الجزائريين، بمن فيهم السياسيون وقيادات الأحزاب، لعلها تستفيد من نتائجها في وضع برامج الحملات الانتخابية وتنظيم الانتخابات ككل.
المضحك المبكي أننا ضيعنا وقتا طويلا في بداية تدخلنا أمام قيادة الحزب في إقناع المسؤول المكلف بوضع برنامج الحزب الانتخابي بفكرة «العينة» التي تعتمدها استطلاعات الرأي، فقد رفض الرجل الفكرة من أساسها وهو يحتج علينا، بصدق واضح، كيف نسمح لأنفسنا باستجواب عينة من 1200 جزائري من ملايين الجزائريين ونبني عليها كل نتائج الاستطلاع. لم ينقذني من هذه الورطة في الأخير إلا تدخل أحد أعضاء قيادة الحزب الذي أفهم زميله، في لفتة ذكية، أن العينة تشبه ما تقوم به الحاجة حرمه وهي تطبخ في الحريرة ـ كنا على أبواب رمضان ـ فالحاجة لم يكن مطلوبا منها أن تستهلك كل الحريرة لقياس مدى طعمها قبل أن تقدمها لأفراد عائلتها، بل تكتفي بكمية صغيرة منها.. إنها العينة.
كاتب جزائري