عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    15-Jan-2021

تغريب الواقع في رواية «تل الذهب» للعراقي حسن عبد الرزاق

 القدس العربي-علي لفتة سعيد

لا تبدو رواية «تل الذهب» معنية بالذهب الحقيقي، ولا تبدو أنها كتبت بطريقة هادئة اقتطاعا من حكاية اجتماعية، بل هي ردة فعل لفعل الغضب الذي جعل بطل الرواية/ السارد الأوحد المتواجد في الثنايا، وبينها، بادئا بسكب غضبه منذ الاستهلال، والدخول المباشر بدون مقدمة أو إهداء، وكأنه يقول للمتلقي هاك ما دونته واسكب معي غضبك على عمر ألبسته الحروب ثوب اليأس.
التدوين الغاضب يبدأ من لحظة الإخبار عن الحرب ومجرياتها.. والمكان الذي تجري فيه الأحداث.. ثم نجد علامات دالة على ذلك الصراع الذي يريد الانفلات من ردة الفعل، باتجاه الفعل، لكن بنائية الحكاية تبقى في الدال ذاته المسوّق لفعل الغضب، الذي تكدس على اكتاف أبطال الرواية، خاصة البطل الرئيس/ الراوي الذي ينيب باسمه عن محتويات التفكير المسبق، كمدلول على ما سيأتي (ناجي عبد نعيثل) فنجد الاسم الأول، وما يمكن أن يلتصق بالصفة التي يحملها، وهو متسرح من الجيش بعد انتهاء الحرب العسكرية فهو إذن (ناجي) ثم نصل إلى اسم (عبد) وما يوحيه من دلالة الخضوع إلى القوة والطغيان والحياة، ليكون اسم الجد غاية أخرى (نعيثل) وما يمثل من دلالة الماضي من جهة، والتابع لمنطقة محددة تطلق أسماء كهذه من جهة أخرى..
الرواية كفكرة تنطلق من عمليات جلد الذات.. الصراع مع الأنا الأولى، ثم الأنا الخارجية المرتبطة بالجمع العام لمجموعة من الناس، الذين استهلكتهم الحرب وجعلتهم في حالة نفسية صعبة، تبحث عن أي شيء يطيح بما يعتريها من أفكار الحرب، والتخلّص منها في متغيراتٍ جديدة طرأت على المجتمع العراقي، لكن الروائي لم يجعل راويه يتحدّث بطريقةٍ مباشرة، إذ صنع له لحظة غرائبية أخرى، بربط قراءة كتاب ابتاعه من الباب الشرقي (حكاية غدك) ليدخل القارئ في البحث عن المدلول الصادم لدلالة عنوان كهذا في الرواية، ومن ثم التأويل على وجود الدال والدليل والمدلول معا.. في عملية البحث عن الأشياء الضائعة.. ولهذا فإن الروائي حرّك راويه عبر ثلاث حركات صراع درامية، تنفعل معها الأحداث وتتصاعد عبر لغة مناسبة لنوع كهذا من الروي السردي، الذي يريد التخلّص من المتن الحكائي، بإعطاء الجهد لهذه اللغة الفاضحة لحالات الاعتلال، التي تعاني منها جميع الشخوص بتأثير الحرب. إن الحكاية لا تبدأ من لحظة انتهاء الحرب، أو حتى الكتاب الذي يبتاعه، بل من لحظة انفجار عجلة السيارة على الطريق العام الصحراوي، حيث القصدية في التيه، ولذا ولأن سيارة الريم بركابها العديدين قد يرهقون عملية الروي، ويشعّب الأحداث، فقد اختار الروائي أن يغيّب الشخوص الآخرين، من خلال إيجادهم لعربات تنقلهم من الصحراء إلى المدن، فيما يبقى الأربعة الذين اختارهم كشخوصٍ مختلفي الوعي والثقافة وحتى المأساة والماضي، وبالنتيجة اختلاف الميول نحو الحياة وتقبلها.
 
الغرائبية واللغة
 
تعتمد الرواية في تدوين جناحيها السردي والحكائي على فعل الغرائبية الذي يبدأ من العنوان، ومن ثم التحوّل الدراماتيكي إلى الصحراء بعد الانتهاء من الحرب أو المتسرّح من الجيش بالنسبة للشخصية الرئيسية، مثلما تعتمد على بث عمليات الصراع بطريقة التغريب عن الواقع، ليس بمعنى إنها مهام غير مألوفة، بل لعدم معقوليتها في التوجّه من حالة البؤس إلى حالة البحث عن ذهب في تلّ أثري، لا يدري بمكانه غير البدوي الذي يعد خليفة لأسلاف المكان، ويكون قائدا لفرقة البحث، وهو يطلب منهم الحفر حول التل لاستخراج الذهب.. وهنا الفعل الغرائبي الثاني: (أن نحيط بالتل نحن الأربعة ونحفر قاعدته لكي نعثر على الذهب ونعود به. هل سمعت؟). وهو الأمر الذي جعل الروائي يلجأ إلى جعل راويه شخصية معارضة متهكّمة ساخرة نابذة لكل ما هو أمامها، بحكم التركيبة الخاصة له، التي أمضت عمرها في الجيش، ولذا يتطلب نوعا من الشجاعة، لكنها أيضا في غرائبية مقصودة، حين جعلها شخصية خائفة مرتبكة، لا تعرف ما تريد، تتصادم، تشعر بالكبت، وهو أي الراوي يؤكّد غرائبية تناقضاته: (لذلك نسيت جبني أمامه، ولم أفكر بحماقة بندقيته، وما ستفعله بي عندما أجبته بعفطة طويلة ذات رذاذ متناثر). والروائي يضع المتلقّي منذ البدء في هذه الغرائبيات، لأن ما يأتي عملية تقشير للحكاية واتساعها التدويني، وبثّ صراعات تأخذ صيغ الواقعية. وهو ما يمكن إيجاده في أغلب صفحات الرواية التي امتدت إلى 106 صفحات، بل إن الغرائبية ليست فقط بطريقة التغريب المفتعل للصراع، بل داخل الشخصية الرئيسية، التي جعلها غير هيّابة بما حوله، يبحث عن لذّته في مكانٍ لا يفترض أن يكون فيه غير الاستقامة في خيمة للبدو، فيكون الاغتراب عبر ملفوظات أيروتيكية تصل إلى حد التصوير المباشر.
 
تتراوح اللعبة التدوينية أو بنية الكتابية ما بين اللغة كمفردة ساردة، والشخصيات، كفعل صراع متمّم لماهية القصدية التي يريد الوصول إليها الروائي.
 
بنية الكتابة
 
اعتمد الروائي على تقسيم روايته عبر ثلاثة فصول تحمل أرقاما.. وهذه الفصول غير متناسقة الطول، وهنا جزء من لعبة تدوينية ارتآها المنتج/ الروائي، حسب واقع الحكاية من جهة، وتدوين غضبها من جهة أخرى. فالفصل رقم (1) يبدأ من صفحة (5) وينتهي بصفحة ( 14) ويبدأ فصل رقم (2) من صفحة (15) وينتهي بصفحة (102) أما فصل رقم (3) فيبدأ من صفحة (103) وينتهي بصفحة (106) وهو فصل الناتج الغرائبي في السرد والحكاية والواقع والشخوص والقصديات واللعبة التدوينية كلها عبر هذه الصفحات الأربع. إن بنية الكتابة تبدأ بمستوى إخباري يحمل الغضب واليأس وجلد الذات، وهو ما حمل معه بعدين من الزمن.
الأول: وهو زمن الروي شيخوخة/ متقاعد، حيث يتذكر الحرب والخنادق..
الثاني: وهو زمن ماضي الحرب ذاتها وما اكتسبه من خوف.
ليشكل ثلاثية الروي والتحوّل من الحكاية إلى السرد، ومن ثم الروي لتكون معادلة.. زمن الماضي ـ زمن الخوف.. الزمن الحالي ـ سخرية وغضب من الماضي والتهكم منه وعليه: (ولكي لا تقودني الشيخوخة بعد أربعين سنة إلى احتراف الكذب في مقهى المتقاعدين). إن بنية الكتابة من جهةٍ أخرى اعتمدت على عملية التقطيع في المتن، ليس بمعنى الذهاب والإياب في المعلومة الحكائية، بل هي في محاولة رسم مشهدية توصيفية عبر اللغة القادرة على صياغة المستوى التصويري والوصفي، الحامل للمستويين الإخباري والتصويري معا.. والتقطيع يأتي ليس بطريقة التكثيف، على اعتبار أن عدد صفحات الرواية قليل، إذن الروي مكثّف غير مترهل، بل جاء ايضا في لعبة التسريع، وهو ما نراه عبر وجود نقطتي التمديد، وكأنه يضع هوامش أو حوارات يريدها ألّا ترتبط بالزمن المروي، ولا تقترب من الزمن المروي له، بل جاءت على شكل تكتيك يخاتل الحكاية للولوج إلى الفكرة، بهدف إنتاج متن سردي يعتمد على طريقة الروي المباشر على لسان الراوي/ الشخصية الرئيسية، لكي يكون قادرا على منح الراوي العليم مهارات الروي، فكانت صيغة المتكّلم الذي يخاطب المتلقّي، وهو الأمر الذي تسبّب هذا التقطيع الحواري داخل المتن، مرّة على شكل حوارٍ إخباري، ومرّة على شكل تصوير إخباري ايضا.. وبالنتيجة أتاح له حرية التدوين والإخبار عن أي شيء يصادف الواقعة، مثلما يقابل الروي عبر اختيار مفردات دالة الصراع والزمن والتداخل، لملء فراغات مراقبة الفعل، من أجل التحول من الغضب إلى ردّة الفعل، وهو ما يمكن ملاحظته من خلال إيجاد جملة كسر الأفق السردي بنطقها. إن اللعبة التدوينية تعتمد أيضا على حركتين مهمتين ضمن الحركات المتنوعة.  حالة الإخبار والتصوير للمشهد السردي، وحالة التركيب اللغوي لهذا المشهد. وهذه اللعبة في هذا الاتجاه تعتمد على الحركة باتجاه المكان وتوصيفه، والحركة باتجاه الزمن واستخلاصه من الأزمنة الثلاثة، والحركة باتجاه تفعيل الصراع وتبيان الحالة النفسية للشخصية في تناقضاتها وانفعالاتها.
وهذه تؤدّي بالنتيجة إلى مواجهة ردّة الفعل التي منحتها التجربة الغاضبة للراوي المنيب عن الراوي.. وهو ما يتطوّر بالنتيجة ليكون الصراع مبنيا على وهمٍ كبير، أو الحالة الوهمية الكبرى، سواء للفعل أو ردّ الفعل.. الغضب أو تدوينه والسيطرة عليه.. وتكون له ثلاثة اتجاهات.
الأول: وهم الحرب ونتائجها والشعارات التي رفعت لها وما يتصل فيها من ذكريات لا يريد الراوي، أن تكون ماضية تنطلق من مقهى المتقاعدين.
الثاني: وهم الصراع الذي يحدث بين الفعل الثقافي والكتاب (حكاية غدك) وهو معنون باتجاه المتكلّم.. متكلم يخاطب متكلما.
الثالث: الوهم المرتبط أصلا بالاتجاه الأول هو وهم الذهب.. الذي يمثل المتغيرات الخاصة في الشخصية العراقية، سواء تلك التي احتكمت عليه اختيارات الروائي لشخوصيه البدوية والاجتماعية العشائرية، والطالب الذي يمثل الشباب. وهذه الحالات (الوهمية) شكلّت البناء العمودي للقصدية التي تحملها الرواية، التي تتجه في بعض متونها إلى تفعيل النقد المباشر مرّة، أو المبطّن تارّة أخرى: (هناك وجدت اللنكات ولم أجد العباسيين). وهو ما أتاح له حرية اختيار المفردات التي تمثل ردّة الفعل وكسر الأفق عبر وضع ما يريد بين قوسين، وكأنها جملة استدراكية على شكل روي مباشر متقطّع من جسد الحكي.
 
الشخصيات وتثوير الصراع
 
تتراوح اللعبة التدوينية أو بنية الكتابية ما بين اللغة كمفردة ساردة، والشخصيات، كفعل صراع متمّم لماهية القصدية التي يريد الوصول إليها الروائي.. فالشخصيات متناوبة وهو أمر طبيعي، ما بين ساخرة ومتهكمة وطامعة وخائفة وشريرة، بحكم البناء الاجتماعي والمكاني، والنازعة نحو الغواية أو الشر، لكن المجموع العام كمحصلة نهائية، فإنها شخصيات غاضبة على واقعها، سواء كانت بعلم أو بدون علم.. ورغم أن الملمح التصويري للشخصيات يكاد في بعض الأحيان ينفلت من يد السرد، ويرمي باتجاه الحكاية والغوص فيها، إلّا أنها تتمتّع بحرية الطلاقة نحو رسم مشهدية الغضب، كأن لا رقبة لبعض الشخوص الذين يقودون الفعل الكلي للحكاية الكلية، ما يجعل الفعل الواقعي متحكّم في تفاصيله، لكنه يكسره بدسّ ما هو متخيّل في الجسد لتفعيل خاصية الغرائبي، كما سبق ذكره، ومنح البعد الميتافيزيقي في اللعبة السردية نقطة التحوّل نحو الأسطرة، ليس فقط من حالة عطل السيارة، بل من خلال الحوار الذي يفرضه السارد مرّة، أو يتجه للشخصيات الأخرى.
هذه حركة الشخصيات ترتبط بحالتين من استبيان القصدية وتوضيح الغايات.
الأولى: إنها تحمل بؤر فكرية يبثّها الراوي لاستكمال الفكرة المراد طرحها، عبر بثّ جملة سياسية هنا، أو فكرية هناك، أو حتى فكرة قابلة للنقاش في تفتيش عن الحقيقة.
الثانية: عملية التناوب في الحركة بين الشخصيات التي تدور حول محورٍ واحدٍ هو محاولة جمع التناقضات، التي تعيشها الشخصيات، ما بين الخوف والطمع الذي تسبّبت به المتغيّرات الحاصلة في المجتمع. وهاتان الحركتان تسعيان إلى جمع عملية تبئير لكلّ شخصية على حدة، والتخلّص من عملية ربط الحكاية باتجاهٍ واحد، وتوسيع اتجاهات المدّ لها قدر المستطاع، خوفا من حصول جزرٍ في الشخصيات، يؤثّر على عملية الرسم الكلية للرواية كفكرة وحكاية. وهو الأمر الذي جعل عملية الروي تعتمد على الحوار الواقعي من جهة وقطعه بمشهدية تناسب الحالة الغاضبة للراوي.
 
كاتب عراقي