الغد
توقفت حرب الأيام الاثني عشر التي خاضتها إسرائيل ضد إيران من دون التوصل إلى اتفاقات مكتوبة أو ملامح واضحة لإنهاء القتال بين الطرفين. ورغم وجود ظروف موضوعية فرضت وقف العمليات العسكرية، وعلى رأسها موقف الرئيس الأميركي دونالد ترامب، إلا أن طريقة إيقاف هذه الحرب توحي بوضوح بأن إسرائيل أضافت الجبهة الإيرانية إلى لائحة الجبهات المفتوحة في سورية ولبنان واليمن، حيث تحتفظ بحق المبادرة العسكرية متى أرادت.
هذا ما تؤكده تصريحات وزير الدفاع الإسرائيلي كاتس التي تحدث فيها عن خطة عمل دائمة لمواجهة التهديد الإيراني. ما يعني أن إسرائيل لن تتخلى عن استراتيجيتها في السيطرة على الأجواء الإيرانية، ولا عن إمكانية تنفيذ عمليات داخل الأراضي الإيرانية، خاصة بعد كشف حجم الاختراق الاستخباراتي الإسرائيلي في العمق الإيراني.
فعليًا، أسست هذه الحرب لمرحلة من الانكفاء الإيراني الأوسع عن الجوار الإسرائيلي. فإسرائيل استطاعت أن تعزل الجبهات المحاذية وتفكك قدرات التنظيمات فيها، وتحتوي خطر التهديد الإيراني المباشر. لكن مع انتقال المعركة إلى داخل إيران، بات من الممكن القول إن الطريق بين بيروت وطهران قد انقطع تماما. وهو ما يفسر الانتقال السريع للعمليات الإسرائيلية ضد "حزب الله" على الجبهة اللبنانية مباشرة بعد وقف القتال مع إيران، وهو ذات النهج الذي تتبعه إسرائيل منذ بداية هذه المواجهة: العودة إلى جبهة من الجبهات المفتوحة كلما تراجع التصعيد على جبهة أخرى.
مع توقف القتال المباشر، قد تجد إيران نفسها مضطرة لمواجهة الحقيقة في الداخل. ويبدو أن الهدف الإسرائيلي الأبرز في هذه المرحلة هو دفع إيران إلى الانشغال بأزماتها الداخلية، بما يكمل عملية الانكفاء. فإيران التي سعت إلى نقل الأزمة إلى الداخل الإسرائيلي، تجد نفسها الآن مضطرة لمواجهة المعركة داخل حدودها، ما يفرض أزمة مركبة على كافة الصعد: السياسية والأمنية والاقتصادية والمجتمعية.
الأزمة السياسية تبدو أكثر وضوحًا في غياب رؤية للخروج من الوضع الراهن أو العودة إلى طاولة المفاوضات. وحجم التنازلات التي يمكن تقديمها يُظهر معضلة داخلية يصعب تجاوزها من دون إحداث تغييرات جذرية في طبيعة التمثيل السياسي الإيراني. وقد أظهر خطاب المرشد الأعلى علي خامنئي ملامح هذه الأزمة؛ إذ جاء موجّها إلى تيار التشدد داخل إيران، في محاولة لرفع معنوياته والتأكيد على "الانتصار"، لكنه كشف في الوقت نفسه حجم الانفصال عن الواقع، خصوصا في الحديث عن ضربات تدميرية قاعدة العديد في قطر على سبيل المثال.
هذا الطرح استدعى ردا قاسيا من الرئيس الأميركي الذي ذكّر خامنئي بأنه هو من منعه من التعرض للقتل بطريقة مهينة، مؤكدًا استمرار العقوبات، ومغلقًا بذلك أفق الحل مؤقتًا، ومُعمقًا الأزمة الداخلية.
أما الموقف الأوروبي، الذي كان حتى وقت قريب يدعم العودة إلى الاتفاق النووي أو التفاوض حول صيغة شبيهة به، فهو الآن أكثر تحفظًا. ويبدو أن موقف الوكالة الدولية للطاقة الذرية من البرنامج النووي الإيراني قد يشكل منطلقًا لموقف دولي أكثر حزمًا، يجعل الخروج من الأزمة الحالية أمرًا بالغ التعقيد، ويربط رفع العقوبات بإجراء تغييرات داخلية عميقة.
في ظل غياب أفق لرفع العقوبات أو العودة إلى طاولة المفاوضات، يتصاعد الضغط على النظام الإيراني بشكل غير مسبوق. فخروج إيران من حرب بهذا الحجم، والتي استهدفت أركان النظام ومفاصله، يتطلب توافقات داخلية واسعة وانفراجة اقتصادية لا تلوح في الأفق. وهو ما يُنذر باحتمالات حراك داخلي غير مسبوق، قد يخرج عن سيطرة النظام.
لقد أصبح من الواضح أن نقل الأزمة إلى الداخل الإيراني بات عنوان المرحلة الجديدة. فالحرب التي فرضت على الأرض الإيرانية ليست سوى أحد وجوه هذا التحول، لكن التحدي الأكبر يبقى في قدرة النظام السياسي على التعامل مع المشهد الداخلي، والعبور إلى تفاهمات دولية تفتح الباب أمام تغييرات حقيقية. وإلا، فإن الأزمة الحالية قد تتحول وبشكل سريع إلى أزمة سياسية داخلية معقدة يصعب احتواؤها.