الرأي -
منذ اندلاع الحرب على غزة وما رافقها من تطورات اخذت العلاقات الأميركية – الإسرائيلية تتحرك فوق أرض رخوة؛ تتداخل فيها حسابات الأمن الانية، مع الرؤى الاستراتيجية حول اليوم التالي للحرب وشكله.
ومع الاعلان عن إنشاء مركز التنسيق المدني-العسكري الأميركي في "كريات غات"، ظهر ما يشبه “الفتق” في ثوب الثقة الذي ميّز العلاقة التقليدية بين واشنطن وتل أبيب طوال عقود،
فالمركز ليس مجرد منشأة لوجستية، إنه في جوهره أول وجود أميركي منظم، معلن ودائم داخل عمق إسرائيل يرتبط مباشرة بإدارة ملف حساس للغاية الا وهو إدارة مرحلة ما بعد حرب غزة وهو الملف الذي يكره نتنياهو مجرد التفكير فيه.
هذا الموقع "كريات غات" لم يتم اختياره عشوائيًا؛ فهو قريب من غزة بما يكفي لإدارة العمليات، وقريب من تل أبيب بما يكفي ليكون في قلب القرار الإسرائيلي، وهنا تبدأ القصة، قصة تحول ملفت في العلاقة، تحول واشنطن من الشريك الى السيد الآمر والناهي والمقرر علنا وليس بالسر.
ترى واشنطن أن تل أبيب فقدت بسبب حرب طويلة غير معتادة وقاسية على مدى عامين القدرة والخبرة الكافية لادارة مثل هذا النوع من الحروب الطويلة والمعقدة والذي مازال مندلعا في اكثر المناطق الحيوية والمهمة لواشنطن في العالم .
ومن موقع "الوَصي الحريص"، قررت الولايات المتحدة أن تتقدم خطوة رمزية وعميقة للغاية لم يسبق ان حدثت قبل ذلك، قررت أن تصبح هي المشرف المباشر على تفاصيل ما بعد الحرب على غزة وأن تراقب عن كثب كل حركة إسرائيلية في الجنوب، هذه الخطوة – التي ظهرت على شكل مركز تنسيق ليست تقنية بل هي سياسية بامتياز وتعني أن واشنطن لم تعد مرتاحة لترك إسرائيل تدير المشهد وحدها، وأن الثقة الاستراتيجية التي كانت تقوم على "التفويض التلقائي" قد تراجعت وهو ما فجر سيلا من التساؤلات الصعبة في تل ابيب بشان العلاقة مع واشنطن بعدما وجدت تل ابيب نفسها امام واقع جديد: ( وجود عسكري-مدني أميركي داخلها يعمل على ملف تعتبره تل أبيب جزءًا من سيادتها وأمنها المباشر).
وعمليا ما سيحدث على الارض ليس مركزا لتقديم خدمات إنسانية، ولا مسالة إدارة حدود، و لا مراقبة اتفاق وقف إطلاق نار معقّد، بل هو تحديد مستقبل القطاع، وربما مستقبل المنطقة، وما يزيد القلق الإسرائيلي أن الفريق الأميركي يضم خبراء في ادارة الصراعات، ما يعني أن الولايات المتحدة جاءت لتبقى، ولترسم خطوط مستقبل غزة وابعد من غزة.
استطيع القول ان علامات اهتزاز الثقة و التي كانت تبدو متينة قبل عدة اشهر فقط بين ادارة ترامب ونتنياهو بدات تهتز بشكل نسبي، ويمكنني القول ان إسرائيل باتت تشعر بأن هذا المركز الأميركي يحدّ من حريتها ويراقبها وكأنها طفل عابث يجب الانتباه لسلوكه،
ان وجود نحو مئتي خبير أميركي، عسكريين ومدنيين، في "كريات غات" وهي مدينة اسسها اليهود المغاربة في خمسينيات القرن الماضي، ليس حدثًا عابرًا، فالولايات المتحدة وضعت عمليا قدمًا في الداخل الإسرائيلي كقوة مراقِبة وهو ما يعني ان المستقبل السياسي والأمني لغزة لم يعد قرارًا إسرائيليًا خالصًا لا بل تصرفات نتنياهو شخصيا باتت تحت المراقبة الاميركية.
الرسالة الاميركية الاستراتيجية هنا هي التالية:
انا اللاعب الأكبر في المنطقة، وأن زمن التفويض المفتوح لاسرائيل قد انتهى وهو استنتاج يحمل ثلاثة أسئلة مهمة الا وهي:
اولا: هل تتحوّل "كريات غات" إلى قاعدة دائمة تؤسس لوجود أميركي طويل في إسرائيل؟
ثانيا: هل يسمح الإسرائيليون بأن يكون للأميركيين حق الفيتو العملي في إدارة ملفات غزة وغيرها في المنطقة سواء اكانت عسكرية او امنية؟.
ثالثا: وهل تستطيع ادارة ترامب ان تصمد امام لحظة انتفاضة "مارد اللوبي الصهيوني" داخل اميركا، واقصد امام تسريبات صور ترامب في جزيرة جيفري ابستين التى سميت "جزيرة الشيطان" اعتقد ان هذه الترسيبات كانت مجرد جرس انذار له؟.
هذه الأسئلة مهمة لدرجة كبيرة لانها عمليا بدات ترسم باجاباتها المحتملة والمتوقعة شكل التحالف الأكبر في الشرق الأوسط بين واشنطن وتل ابيب والذي يتيح بلا شك فرصة للعرب لحرف بوصلة هذا التحالف نحو المصالح الاستراتيجية العربية ان ارادوا ذلك؟؟.