عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    28-Nov-2024

"التلفاز قديما".. قصص مغلفة بالحنين وبساطة الحياة

 الغد- تغريد السعايدة

 لا شيء من وسائل الترفيه المتوفرة بسهولة اليوم يمكن أن يضاهي متعة الجلوس أمام شاشة التلفاز قبل عقود، حين كان الوسيلة الرئيسية للترفيه والرفاهية للعائلات، بغض النظر عن مستوياتهم الاجتماعية؛ إذ يعبر الكثيرون عن الحنين لتلك الأيام، سواء من خلال استرجاع ذكرياتهم مع البرامج القديمة أو بمجرد رؤية صورة لتلفاز قديم.
 
 
بعد العودة من المدرسة في يوم ماطر، وبين أجواء توفرها مدفأة الكاز، كان الأطفال يجتمعون حول تلك الشاشة الصغيرة بعيون مليئة بالفرح والبهجة، يشاهدون برنامجهم المفضل، الذي ينتهي سريعا، ليأتي دور الأب في متابعة الأخبار، قبل أن يجتمع أفراد العائلة مرة أخرى لمشاهدة مسلسل المساء، ثم يخلد الجميع إلى النوم.
 
في مشهد آخر، يرسم أحدهم تلك الصورة الجميلة في مخيلته ويتمنى لو يعود به الزمن سنوات إلى الوراء، إلى تلك اللحظات التي يعيشها البيت في ساعات ما بعد العصر، حيث أشعة الشمس الدافئة تتهيأ للمغيب، وصوت التلفاز يملأ الأرجاء، يتردد فيه صوت آيات من القرآن الكريم، وتارة أخرى يعرض مسلسل كرتوني، أو يعلن الاستعداد لمشاهدة برنامج منوع أو نشرة الأخبار.
تلك التفاصيل تشترك فيها ذكريات الملايين حول العالم، حين كان التلفاز الوسيلة التي تجمع العائلة وتقدم لهم ما يطمحون إليه من معرفة وترفيه وعلم وثقافة. لكل برنامج جمهوره الذي يترقب مواعيده ويتشارك تفاصيله. كان التلفاز حينها عنصرا أساسيا في المنزل، شامخا في مكانه المميز بالقرب من أفضل جدار، سواء وضع داخل خزانة مخصصة أو على طاولة أنيقة. بل إن العديد من الأمهات كن يضعن "شرشفا مطرزا" عليه بعد انتهاء البث مع إعلان المذيع: "تصبحون على خير".
"يا عمار على الزمن البسيط الجميل، أيام جميلة بلا إنترنت ولا هواتف، والناس تسهر عند بعضها بعضا، والنوم كان باكرا. يا ريت ترجع!"، بهذه الكلمات علق أحمد الحجاج على مقطع فيديو نشرته إحدى الصفحات على منصات التواصل الاجتماعي، مستذكرا تفاصيل حياته البسيطة المرتبطة بأهله وأصدقائه في الحي. ويرى أن جزءا كبيرا من تلك الذكريات يدور حول التلفاز، كونه الوسيلة الترفيهية الوحيدة التي كانت متواجدة،
الارتباط لم يكن فقط بما يعرضه التلفاز من برامج، بل بالجهاز نفسه، الذي كان يعد رمزا ذا قيمة كبيرة في البيت، يستحق العناية والحفاظ على مظهره ومكانه ونظافته.
تستذكر ناديا حامد، تلك الخزانة الخشبية التي صنعها والدها خصيصا لتلفازهم، حيث كانت تغلق ليلا بمجرد انتهاء المسلسل، استعدادا للنوم. ولا تفتح الخزانة إلا في اليوم التالي عند حوالي الساعة الرابعة عصرا، تزامنا مع بداية البث من جديد.
مجلي: التلفاز شكل ذكريات الناس
الإعلامية الأردنية جُمان مجلي، بصوتها المميز الذي ارتبط بذاكرة الأردنيين، تنقلت بين الإذاعة والتلفاز لتقدم برامج لاقت حضورا في بيوت العائلات الأردنية. كانت فترة برامجها تتسم بـ"الألفة" واجتماع الأسرة حول الشاشة. وفي حديثها لـ"الغد"، تذكر مجلي أنها كانت طالبة في المدرسة عند دخول التلفاز إلى منزل عائلتها، مشيرة إلى أنه شكل نقلة نوعية كبيرة في حياتهم، كما في حياة الأردنيين عامة. وأضافت أن امتلاك التلفاز في تلك الفترة كان يعني أن المنزل مفتوح دائما للأقارب والجيران، الذين كانوا يتجمعون لمشاهدة البرامج المتنوعة، من مسلسلات وأفلام، في أجواء من الحميمية والبساطة.
تقول مجلي إن تلك التجمعات العائلية حول التلفاز عززت العلاقات الاجتماعية؛ حيث أصبحت البرامج التي تعرض حديثا مشتركا بين الناس، يتبادلون التعليقات والتحليلات عنها في اليوم التالي. وأضافت أن مشاهدة التلفاز دفعت العديد من الأسر إلى التخطيط لاقتناء هذا الجهاز، ليصبح متوفرا في منازلهم في كل حين. ومع انتشار التلفاز، بدأ المختصون والباحثون دراسة تأثير المحتوى الذي يعرض على المجتمع.
تشير مجلي إلى أن بعض تلك الدراسات وصفت التلفاز بـ"الوالد الثالث" في البيت، مما يتطلب الحرص على نوعية المحتوى الذي يقدمه، لضمان أن يكون تأثيره إيجابيا. ومع تطور الزمن ودخول التلفاز إلى كل منزل، بدأت ملامح جديدة تظهر، مثل العزلة الجزئية التي فرضها تعدد القنوات؛ حيث تقول: "أذكر كيف كانت تنشب الخلافات بين أفراد الأسرة عندما يرغب كل شخص بمتابعة قناته المفضلة".
تفاصيل كثيرة يصعب حصرها ارتبطت بالتلفاز، الذي بات جزءا من ذكريات الناس رغم تغير الزمن. وعلى الرغم من ذلك، ما يزال هناك يوم عالمي يحتفي فيه العالم بأهمية التلفاز، وهو الحادي والعشرون من شهر تشرين الثاني (نوفمبر) من كل عام. يخصص هذا اليوم للتأكيد على دور التلفاز في خلق حالة ثقافية مجتمعية جامعة، أسهمت بشكل كبير في تعزيز التواصل خلال حقبة زمنية معينة، قبل أن تأخذ العلاقات الرقمية الافتراضية مكانها بشكل متسارع.
النوايسة: نافذة للتفاعل مع العالم والحياة
يتحدث الخبير في التراث العربي والأردني، نايف النوايسة، عن تلك الحقبة الزمنية التي كان فيها التلفاز ضيفا محدودا في بيوت عدد قليل من العائلات الأردنية، قبل أن يزداد انتشاره مع مرور الزمن. ويشير إلى أن دخول التلفاز إلى الأردن بدأ في فترة الستينيات من القرن الماضي، حيث كان الأردنيون خلال معركة الكرامة يعتمدون على المذياع لمتابعة الأحداث. لكن بعد ذلك، بدأت بعض المقاهي الشهيرة في عمان بتوفير جهاز تلفاز لروادها، الذين تعاملوا معه في البداية وكأنه "راديو تخرج منه صورة"، وفق تعبيره، حيث كانت المتابعة تعتمد بشكل أساسي على حاسة السمع. ويضيف النوايسة أن المجتمع سرعان ما اعتاد التلفاز كوسيلة إعلامية وترفيهية في آن واحد. وفي أواخر الستينيات، كان امتلاك التلفاز يعد نوعا من الرفاهية، مقتصرا على عدد محدود من العائلات. أما في السبعينيات، فقد شهد انتشارا أوسع، حيث أصبح متاحا للشراء بالتقسيط، مما سهل اقتناءه في العديد من المنازل.
ويستذكر النوايسة، بفخر، احتفاء عائلته بامتلاك أول جهاز تلفاز في منزلهم العام 1975، مشيرا إلى أنه مثل حينها نافذة جديدة للتفاعل مع العالم والحياة.
يقول النوايسة إن كل ذلك كان يحدث في زمن البث بالأبيض والأسود؛ حيث تابع الناس المسلسلات والبرامج والأخبار من دون ألوان. ومع ذلك، ما تزال تلك اللحظات محفورة في الذاكرة بكل حنين وحب، كونها ارتبطت بالسعادة والبهجة في ذلك الوقت. ومع اختراع التلفاز الملون، شهد العالم نقلة نوعية جاءت بالتزامن مع بث قائمة طويلة من البرامج الجديدة والمتنوعة، مما زاد من حجم المتابعة والإقبال عليه، وكل ذلك، كما يشير النوايسة، كان جزءا من التطور التدريجي للمجتمع.
جريبيع يستعيد روايات كبار السن بامتلاك التلفاز
ويؤكد جريبيع أن التلفاز أسهم في خلق حالة من الألفة بين أفراد الأسرة؛ حيث كانت العائلة الصغيرة أو الممتدة تتجمع لمتابعة ما يعرض. ويرى أن هذه العادة أدت إلى ظهور نقطة تحول اجتماعي في المجتمع الأردني، حيث أصبح التلفاز عنصرا من عناصر الاستقطاب الإيجابي بين أفراد المجتمع، كما أسهم في تعزيز حالة من الاستقرار، إلى جانب توطيد العلاقات.
ويستشهد جريبيع بروايات كبار السن، الذين يذكرون كيف كانت المناطق التي يمتلك فيها أحد سكانها جهاز تلفاز تشهد توافد الجيران والأقارب إلى منزله لمتابعة البرامج لساعات عدة، حتى انتهاء البث. أما اليوم، ومع تنوع مصادر الترفيه والمعلومات، لم يعد التلفاز يحظى بتلك الأهمية كوسيلة أساسية للحصول على المعلومة.
باعتباره جهازا مؤثرا ومواكبا للتفاعل والتطور الاجتماعي للشعوب، يرى اختصاصي علم الاجتماع الدكتور محمد جريبيع، أن التلفاز، الذي جاء بعد الراديو، شكل حالة جديدة وخاصة في المجتمعات، بما فيها المجتمع الأردني. ويشير إلى أن الأردنيين، كغيرهم، تأثروا سريعا بالشاشة الفضية الصغيرة التي أصبحت مصدرا للمعلومة ووسيلة للتجمع العائلي والاجتماعي في الوقت نفسه.
الصورة فرضت ثقافتها الخاصة
ووفق النوايسة، فإن التلفاز، منذ بداياته وحتى اليوم، أحدث نقلة نوعية في تعامل الإنسان مع الحياة. فكما كان للسمع ثقافته في عصر الإذاعة، جاءت الصورة لتفرض ثقافتها الخاصة، مما خلق تحولا مهما في الثقافة السمعية والبصرية. ويشير إلى أن التلفزيون كان بمثابة واجهة للأجيال التي عايشت مراحل تطور هذه التقنية. وما يزال الكثيرون يحتفظون بالأجهزة القديمة كتذكارات وضمن قائمة التراثيات. 
أما الدكتور جريبيع، فيرى أن التلفاز لعب دورا بارزا على مدى عقود في تغيير منظومة القيم المجتمعية في الأردن؛ حيث أسهم في كسر الحواجز بين أفراد المجتمع، وخلق حالة من الإجماع على محتواه. كما كان إحدى أهم أدوات الضبط للسلوك المجتمعي، رغم التحولات التي شهدها المجتمع مع تطور الزمن.
وتشير الإعلامية مجلي إلى أن التلفاز كان نقلة اجتماعية وتوعوية كبيرة في المجتمع الأردني، إلا أن تطور التكنولوجيا قلل من مكانته، حيث بات لكل فرد شاشته الخاصة (الهاتف)، ما أدى إلى عزلة أكبر داخل البيت الواحد. وتضيف: "أصبحنا نعيش في قوقعة أكبر، حيث يتابع كل فرد ما يريد منفردا".
لكنها تؤمن بأن لكل مرحلة معطياتها، قائلة: "علينا أن نستفيد من الماضي ونتذكر بدايات التلفاز التي حملت معها دفء التواصل العائلي، لكن تلك مرحلة مرت وانقضت. علينا أن نتكيف مع الحاضر ونتعامل مع إيجابياته وسلبياته".