عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    27-Mar-2019

الباحث الطبيب موفق خزنة كاتبي: حكايات حدثت في عَمَّان أيام زمان!

 الراي - وليد سليمان

حدثت مع الطبيب العام "موفق خزنة كاتبي" العديد من القصص والمواقف والحكايات خلال ممارسته لمهنة الطب العام منذ منتصف القرن العشرين الماضي حتى آخره .. وقد ضمَّنها في مذكراته "خمسون عاماً في مهنة الطب في عمان" موضحاَ: "لقد فرض عليَّ موقع عيادتي في وسط مدينة عمان- كانت العيادة في أول شارع الشابسوغ ثم انتقلت الى شارع الهاشمي- نوعا من السلوك الطبي والاجتماعي والثقافي والمادي.. فهناك الكثير ممن كانوا يأتون لمعالجتهم مجانا.. ومنهم من يأتون لأخذ نصيبهم من فريضة الزكاة او الصدقات.. حتى انني كنت في الايام العشرة الاخيرة من شهر رمضان المبارك اغلق العيادة لكثرة المتسولين ممن لا يستحقون!!.
 
وهناك قصص قد تكون غريبة وهي كثيرة!! منها عمن تعاملت معهم من غرباء عن الاردن!! وكذلك بعض القصص مع أشخاص من سكان عمان.
 
1- الشاب اليمني
 
دخل العيادة شاب متعب وقال لي: أنا مريض وليس معي ما أتعالج به، فسألته من اين انت! فقال: من اليمن ومن مدينة تعز, فقلت: ما جاء بك الى عمان! قال: انا كنت مع مجموعة من الشباب اختارنا الجيش اليمني وأرسلونا الى العراق طلاباً في الكلية العسكرية العراقية، وقد شعرنا بالسعادة ونحن نتلقى تدريبنا ودروسنا العسكرية في الجيش العراقي.. وكان من المفروض أننا سنلتحق بعد سنتين ضباطا في الجيش اليمني!! وهكذا عشنا في بغداد مرفهين حتى الايام القليلة الماضية!! ولكن بعد ان ضربوا بغداد وحلّوا الجيش العراقي تركونا نهيم على وجوهنا... وقد مضى عليّ نحو أسبوع في بغداد وانا لا املك الا القليل من بقية الراتب.. فركبت الحافلة المتجهة الى عمان وأنا مريض ووصلت ليلة امس.
 
ويقول د. موفق: وبعد ان فحصته وأعطيته العلاج اللازم.. سألته هل ما تقوله صحيح ام شطحات من عندك؟! قال لي: انا صادق وهذه هويتي اليمنية وهذه هوية كلية الضباط العراقية، وانا لي اخ برتبة جنرال في الجيش اليمني, وهو الذي توسط لي في الذهاب الى بغداد لأتخرج ضابطا وأعود بعدها الى بلدي.
 
وهنا قلت له: هل تعرف رقم هاتف اخيك في تعز باليمن؟! قال: نعم، واخرج بطاقة مكتوب عليها اسم اخيه ورقم هاتفه، فقمت فورا بالاتصال الهاتفي باليمن ومنها تعز، ولم تكن الاتصالات الهاتفية سهلة وسريعة ذلك الوقت ولكن الله يسرها.. فلم ننتظر اكثر من ساعتين حتى وصل الرد.. وسألت: هل تلك مدينة تعز؟! فأجاب المتكلم: نعم، قلت: وبيت من هذا، قالوا: بيت اللواء فلان، قلت: هل لكم شاب في بغداد؟! قالوا: نعم، وذكروا اسمه، قلت: هو بجانبي تفضلوا وتكلموا معه، وهكذا تكلم الشاب مع اخيه ومع اهله، وبعد انتهاء المكالمة تركني شاكرا ولم أعد أره، مما غلب على ظني ان اخاه اتصل بالسفارة اليمنية في الاردن من بلده، وكأنه طلب منه ان يراجع السفير مما سهل له العودة الى بلده... والى الآن لم يتصل بي ذلك الشاب او ذاك الجنرال!!.
 
2- أسرة من بغداد
 
وعن حكاية أخرى يروي د. موفق ما يلي: في احدى السنوات من ثمانينيات القرن الماضي أتت أسرة عراقية الى عمان لتمضي فترة الصيف في الاردن، وبالصدفة نزلوا في الفندق المقابل لعيادتي.. وصار كلما مرض احدهم يحضرونه الى العيادة لمعالجته.. وفي يوم دعوتهم لطعام الغداء في بيتنا وتعرفوا على زوجتي وبناتي، وعندما عادت الاسرة الى بغداد اعطت احداهن من بنات الأسرة العراقية رقم هاتف منزلهم الى احدى بناتي.. ودعونا برجاء لزيارتهم في بغداد.
 
ويشاء القدر ان تُضرب بغداد ويصبح اهلها بحاجة الى المساعدة، وفي احد الايام طلبت من بناتي ان آخذهن الى السوق ليشترين مواداً غذائية كي يرسلنها الى تلك العائلة، وهكذا عبأن "شوالاً" من المواد الغذائية من كل الانواع, وأرسلناه الى تلك العائلة في بغداد.
 
وكان من المصادفة ان ابن ممرضتي يعمل على شاحنة نقل كبيرة تذهب الى بغداد فأرسلنا ذلك الشوال معه.. واتصل بأفراد تلك العائلة فجاءوا وأخذوا ما ارسلناه لهم، وهكذا تكررت الحالة وتكرر الامداد الى ان تحسنت الاحوال المعيشية هناك.. وطلبوا منا ان لا نعود لإرسال أي شيء.
 
وصارت بنات الاسرة يتصلن بنا في صباح كل عيد يهنئوننا بذلك العيد ويشرحون ان وضعهم العام قد تحسن, وصارت المواد متوفرة للغني والفقير، وكان آخر هاتف منهم في آخرعيد قبل سنوات طويلة .. ومع ذلك أرجو ان يكونوا بخير.
 
3- سيدة هندية
 
قبل سنة من حرب 1967 دخلت سيدة هندية العيادة وتكلمت مع الممرضة باللغة الانجليزية التي لم تفهمها!! فطلبت ان ترى الطبيب فدخلت مكتبي ورحبتُ بها وسألتها عمَّا تريد؟! فقالت: أريد الحمام لأقضي حاجتي الملحة، واستغربت ذلك وطلبت من الممرضة ان تفتح لها الحمام الذي تستعمله الممرضة لا الذي يستعمله المرضى، وبعد أن خرجت شكرتني على ما قدمت لها.
 
فقلت لها: اني استغرب قصتك!! قالت: انا زوجة دكتور، رئيس قسم طب العيون في جامعة دلهي في الهند، وأتيت مع جروب سياحي ديني للحج الى بيت لحم، فانا مسيحية ومجموعتي مسيحيات، امضينا اسبوعا في فلسطين وزرنا المقدسات, واني جدا مسرورة بما قمت به من واجب الحج، ثم تابعت تقول: وقد غادرنا القدس صباح هذا اليوم لنستقل الطائرة مساءً من مطارعمان، وهكذا صار علينا ان ننتظر في الباص او نتجول في المدينة الى المساء، والغريب ان الشركة لم تحجز لنا فندقاً في عمان نقضي فيه نهارنا.. وأخرجت هوية زوجها وهوية نقابة اطباء الهند لأتأكد من صحة ما تقول.
 
فرحبت بها وقدمت لها ضيافة سريعة، ثم قالت لي: تصوَّر انني لم أستحم منذ اسبوع وانا على ما انا في مدينتي وبيتي، اشفقت على حالها ودعوتها الى طعام الغداء في بيتنا وان تستحم عندنا، قبلت دعوتي واخذتها الى بيتنا بعد ان ابلغت رئيس الرحلة الذي في الباص انها معي وهذا رقم هاتفي وسأعيدها قبل المساء، وهكذا قمنا بواجبها واستحمت وشكرتنا.
 
ثم سألتها: ما سبب مراجعتك العيادة ولم تراجعي اي فندق حول المدينة، اجابتني: بان زوجها قال لها اذا ألزمك قضاء حاجة او حدث لك اي سوء فادخلي عيادة اي طبيب فهي آمن مكان للسيدات لقضاء أمورهن.
 
وجلست تحدث أسرتي عن الهند وعن جامعاتها.. ويبدو انها استاذة في احدى الكليات، وكانت سعيدة جدا.. اذ أدت حجتها كما يجب وختمتها بمعرفتنا.
 
اعدتها الى الباص وقلت لها: بلغي سلامي لزوجك, وقولي له ان طبيبا مسلماً في عمان قام بواجبين: احدهما رعاية ابن السبيل.. والآخر تنفيذ الادب الطبي عالميا.
 
والغريب انه والى الآن لم يصلني منها او من زوجها بطاقة شكر على الاقل!!.
 
4- مساعدة الملهوف
 
اشترت احدى السيدات قطعة ذهبية ثمينة من سوق الصاغة في عمان, وعندما خرجت من المحل لاحظت ان رجلا يتبعها, فدخلت احد المحلات فدخل خلفها, ثم خرجت ودخلت مطعما صغيرا يبيع الكنافة فتبعها، ثم حاولت ان تزوغ عنه ولكنها لم تفلح!! وبقي يتبعها الى موقف السرفيس الذي كان قرب عيادتي.
 
وما كان منها إلا ان دخلت عيادتي وقالت للمرضة: انظري من الشباك، فان ذلك الرجل يتبعني منذ خرجت من سوق الصاغة!.
 
وكان تحت العيادة دكان حلاق يجلس عنده البعض من اصحابه, وكان احدهم من افراد البحث الجنائي.. فاستدعته الممرضة الى العيادة وشكت له امر تلك السيدة! فنظر من الشباك وعرفه وقال لها: اتبعيني الى السرفيس وتبعته.. لكن ذلك الرجل تبعهما!! وبعد ان حجز لها في السرفيس وأوصى بها السائق، قبض على ذلك الرجل وأودعه المخفر، حيث أراحها وأراح غيرها من أمثاله.
 
5- ما يبكي القلب
 
لطالما بكى قلبي ولم تدمع عيني عند مشاهدة حالات من الفقر المدقع وحالات من اليتم وحالات من العقوق:
 
فقد دخلت عيادتي سيدة صغيرة بالسن, يبدو عليها حالة من البؤس والفقر وقالت لي: انا لست مريضة, بل لي قصة اذكرها لك لعلك تساعدني في محنتي!! فقلت: تفضلي, فقالت: انا كنت في المرحلة الثانوية في صف زوجتك، و حظي ان ابي كان فقيرا، وزوَّجني الى رجل كبير وفقير.. وقد مرض ولم يعد قادرا على العمل، ولي ثلاثة اطفال، وضاقت الدنيا بعيني فتذكرت ان صديقتي تزوجتك بعدما تركنا المدرسة, وقد فرحت لزواجها منك، وتمنيت لها التوفيق والنجاح في حياتكما، ولذلك اتيتك اطلب المساعدة فأنا فقيرة ومسكينة ذات متربة، وذكرت لي الكثير عن بؤس حياتها لدرجة ان ثدييها لا يدر حليبا لرضيعها على الاقل.
 
ابكت هذه السيدة قلبي!! وتذكرت حكمة تقول: انه من الافضل ان تُعطي الصياد شبكة يصيد بها من ان تدعوه الى وجبة سمك فاخرة.
 
وهكذا قلت لها: هل تستطيعين ان تعملي في مستشفانا، قالت: صارت بلدتي بعيدة بعدما تزوجت ورحلت الى بلدة زوجي.
 
وكان لي صديق مسؤول في بلدتها، اتصلت به وعينها موظفة هناك في المستشفى الذي يعمل فيه، وهكذا انحلت مشكلتها.. إلا ان قصتها الطويلة من حياة البؤس أوحت لي بمقطع قصيدة لم اكمل منها الا ثلاثة ابيات:
 
ابكت القلب فجفت ادمعي
 
واستثارت هادئا في اضلعي
 
وحكت لي قصة عن بؤسها
 
ليت لي قلبا حديدا لا يعي
 
وشكت لي قسوة الدهر فقد
 
عضّها الفقر بناب موجعِ
 
واتفقت مع زوجتي ان تساعدها كلما احتاجت الى المساعدة المادية، ولكنها بعد ان اشتغلت هناك لم اعد أرها!!.