الراي
هذه أول مرة في التاريخ الحديث نشهد فيها حرب تجويع ممنهجة، تمارسها قوات الاحتلال الصهيوني بحق سكان قطاع غزة، حيث تفرض عليهم حصارا خانقا تمنع بموجبه ايصال المساعدات عبر المعابر البرية، فيما يسمح أحيانا بانزال بعض الاغذية من الجو، وهي عمليات تسقط من خلالها كميات قليلة من الأغذية أقرب ما تكون الى الفتات!.
يعاني عشرات الآلاف من الأطفال من سوء تغذية حاد يهدد حياتهم، ويواجه نحو 500 ألف شخص خطر المجاعة، وهي جريمة نادرة في حروب المجاعة، في الوقت الذي تستهتر حكومة الاحتلال بجميع النداءات، التي تطلقها منظمات الاغاثة الدولية التي تحذر من تفاقم خطر المجاعة.
والأكثر اثارة للسخرية ما تقوم به ما تسمى مؤسسة غزة الانسانية، التي تديرها اسرائيل والولايات المتحدة الاميركية، التي تتولى عمليات توزيع الفتات على سكان القطاع، حيث يتزاحمون على مراكز التوزيع بصورة مذلة بدون مواعيد ثابتة، والتي تحولت الى مصيدة للموت حيث يستشهد ويجرح المئات يوميا، وهم يحاولون الحصول على ما يسد رمقهم!.
وكما يقول مدير الطوارئ في برنامج الأغذية العالمي روس سميث، "هذه كارثة تتكشف أمام أعيننا، وأمام شاشات التلفزيون.. هذا لا يشبه أي شيء شهدناه في هذا القرن"! بينما يصف منسق الإغاثة في حالات الطوارئ التابع للأمم المتحدة، توم فليتشر، ذلك بـ"الحصار الوحشي"، وقال إن قرار وقف المساعدات الإنسانية "عقاب جماعي قاسٍ"، في الوقت الذي تعاني فيه المنظمومة الصحية من حالة انهيار تام!
استخدام سلاح التجويع محاولة لفرض عقاب جماعي، أو السيطرة على الشعوب وكسر إرادتها أو تهجيرها من أراضيها، ورغم كثرة الادانات والمناشدات الدولية لوقف هذه الجريمة، الا أن اسرائيل تضرب بها عرض الحائط، طالما أنها تحظى بدعم أميركي غير محدود.
وفي تاريخ الصراعات الدولية يمكن الاشارة الى عديد المجاعات، التي حدثت منذ بداية القرن العشرين، لكن ما تشهده غزة يشكل "أسوأ سيناريو للمجاعة"!
من الأمثلة القليلة، لاستخدام التجويع من أجل الإبادة، مقتل عشرات الآلاف من قبائل الهيريرو والناما في بداية القرن ال 20 .
وكانت ناميبيا -الواقعة جنوب غرب أفريقيا- تحت حكم ألمانيا الاستعمارية آنذاك، وخلال تلك الفترة قامت قبائل هيريرو وناما بالثورة ضد الألمان، وبعد قمع التمرد أجبرت القوات الألمانية، أفراد القبائل على التوجه نحو صحراء كالاهاري القاحلة، إذ أغلقت جميع مصادر المياه في وجههم، وهذا تسبب في موتهم عطشا وجوعا. أما الذين حاولوا الفرار أو النجاة، فتعرضوا لإطلاق النار عليهم ومن بينهم نساء وأطفال، وهو ما تقوم به اسرائيل هذه الأيام في قطاع غزة.
ومن أخطر نماذج التجويع القسري ما حدث خلال الحرب العالمية الثانية، حين حاصرت قوات ألمانيا مدينة لينينغراد لمدة 800 يوم بين عامي 1941 و1944، وتسبب ذلك بمقتل نحو مليون شخص، وعانى سكان المدينة من جوع شديد بسبب نقص الغذاء، وازدادت المعاناة بسبب البرد القارس، إذ وصلت درجات الحرارة إلى 38 تحت الصفر، وتوفي كثير من الناس من البرد والجوع.
وحدثت مجاعات أخرى عديدية في الصومال والسودان، لكنها لم تصل الى ما يشهده سكان قطاع غزة، من استخدام سلاح التجويع بهدف القتل الجماعي!.
وفي ضوء هذه المعطيات هناك من يراهن على الانقسامات الداخلية الاسرائيلية، سواء بين المستويين السياسي والعسكري، أو على صعيد قوى وأحزاب المعارضة الاسرائيلية، وأجزم أن هذه رهانات خاسرة لن تقدم أي خدمة للقضية الفلسطينية، ولن توقف حرب الابادة والتجويع التي يتعرض لها أهل غزة، فمن جهة تبدو الاختلافات بين المستويين السياسي والعسكري تتمحور حول كيفية تحقيق حرب الابادة، وبضمنها القضاء على حركة حماس ونزع سلاحها وتهجير ما تبقى من قياداتها في الداخل، اما على صعيد الانتقادات اللاذعة التي توجهها أحزاب وقوى المعارضة ضد حكومة نتيناهو، فهي تندرج في اطار المزايدات السياسية، لغايات تضييق الخناق على الحكومة، ومحاولة لتبكير موعد الانتخابات التشريعية "الكنيست".
والخلاصة أن جميع هذه الاحزاب سواء كانت في المعارضة أو في الحكم، تتفق على هدف مركزي وهو عمليات التطهير العرقي ضد الشعب الفلسطيني، ولو كانت المعارضة هي التي تحكم اليوم لمارست نفس نهج حرب الابادة والتجويع ضد قطاع غزة، وسبق أن شغل رموز من هذه المعارضة مواقع عسكرية أو تولوا الحكم لفترة قصيرة، وارتكبوا الكثير من الجرائم ضد سكان غزة والضفة الغربية، وجميع هذه الأحزاب ترفض اقامة دولة فلسطينية مستقلة!.