عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    09-Jan-2021

الإذاعة الأردنيّة وذاكرة طفل: (3) عَبَقُ المعنى*أ.د. وائل عبد الرحمن التل

 الدستور

فذاك (عبق المَبنى)، أمّا (عبق المَعنى) في «إذاعة المملكة الأردنيّة الهاشميّة» بين (1972 - 1980م) فقد صرتُ أنا الطفلُ أستشعرُهُ منذ لحظة دخولي من بوابتها الزجاجيّة والسّير في «كريدوراتها» والدّخول إلى أيٍّ من أقسامِها وصالاتِها وقاعاتِها ومكاتبِها.
ففي «كريدورات إذاعة المملكة الأردنيّة الهاشميّة» عبقٌ يفوحُ من (زمن تأسيسها) استشعَرتُ به تاريخَ وطنٍ ودولة، واستشعَرتُ به هيبةَ ملكٍ مُعظّمٍ افتتحها ومشى فيها، واستشعَرتُ به قاماتَ رجالٍ عشقوا الوطن وفهموا الوطنيّة (عقلاً وقلباً) وأدركوا بهما جوهرَ المواطنة وكُنْهَ الانتماء وحقيقة الوفاء والولاء وجعلوها مِدادَ (القَلَم) فشيّدوا بُنيانَ الإذاعة الأردنيّة حِصْناً ودِرْعاً، وصنعوا لأثيرِها عُشّاقاً وفُرساناً، وصقلوا له نسائماً وصهيلاً وسيوفاً.
وفي «كريدورات إذاعة المملكة الأردنيّة الهاشميّة» عبقٌ يفوحُ من (حاضِر وقتها ذاك) حين كان أبناؤها يسيرون فيها بكاملِ أناقتهم، وبشموخٍ وعُلوِّ هامة، وينهون سَيرهم فيها إلى وجهتهم بهمّة، فلم ألحظ أبداً اثنان يقفان فيها يتحدثان، وإذا مرّ أحدٌ بجانب أحدٍ ألقى عليه التحيّة دون توقّف الخَطوات، وإذا لَزَمَ الحديثُ فيدعو أحدُهما الآخر إلى مكتبه؛ فاستشعَرتُ في تفاصيل أناقتهم عشقَهم العمل واحترامَهم الذّات واستعدادَهم لاستقبال أي ضيفٍ كلّ الوقت وتقديرَهم النّاس فكأنّ الوطن بكلّ مَن فيه يشاهدُهم، واستشعَرتُ في تفاصيل شموخِهم وعُلوِّ هاماتهم فخرَهم بقدسيّةِ دارِهم وبسموِّ رسالتها واعتزازَهم بدورِهم فيها، واستشعَرتُ في تفاصيل هِمّتهم في إنهاء سَيرهم فيها مروءَتَهم وغيرَتَهم على سكينتها.
وفي أقسامِ «إذاعة المملكة الأردنيّة الهاشميّة» وصالاتِها وقاعاتِها ومكاتبِها عبقٌ يفوح من نفسِ (حاضِر وقتها ذاك) استشعَرتُ به عندليبَ حكاياتِها ومُعلّقاتِها حتّى صارَ قلبي (مَليان) حكايات بعبقِ ما كان فيها، و(مَليان) مُعلَّقات بعبقِ مَن كان فيها، كيفَ لا؟! وأنا كنتُ أجدُ فيها عمالقةَ علمٍ وفكرٍ وسياسةٍ وثقافةٍ وإعلامٍ وأدبٍ وفن، وكنتُ أجدُ فيها التنوّعَ الديني والفكري والجغرافي والنّوع الاجتماعي ينصهرُ بروحٍ واحدةٍ، وكنتُ أجدُ فيها حديثَهم بالفصيحة، وكلٌّ فصيحته بلونِ ونكهةِ لهجته، فالتحضّرُ عندهم ليس في خلع منابت اللهجة بِـ (طَعْجِ) الحَنَك و(لَيِّ) اللّسان، وكنتُ أجدُ فيها دواوينَهم خلايا عمل وورش إعداد ومراجعة وتعاون وتشاور وتدريب وتوجيه، وكنتُ أجدُهم فيها كلّهم لا هَمّ لهم إلا همّ الوطن وإتقان العمل، ولا حميّة عندهم إلا على دور ومكانة الإذاعة الأردنيّة، وفي ذلك تنافس منهم المتنافسون ولم يكن في هذا التّنافس أي جولة للأنا (لا أنا الدُّنيا ولا العُليا).
أخيراً، فإذا كان هذا هو نبضُ صَدري الصّغير بِهَبوبِ «عَبَق إذاعة المملكة الأردنيّة الهاشميّة» بين (1972 - 1980م) فكيف كان ينبضُ صدر العاملين فيها وقتها ومنهم (أبناء) أو (ورثة) هذا المشروع الوطني الذي تأسس بفكر عميق واستراتيجية استشرافية وخطوط مستقيمة لا ظلّ لها ولا انكسار ولا التفاف فيها ولا مخارج لها ولا انحدار، والحديث في هذه الخطوط يأتي.