عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    19-Feb-2021

فلسطين كما يراها مريد البرغوثي: من يجرؤ على تجريدها الآن وقد تجلّت جسدا أمام الحواس؟

 القدس العربي-رامي أبو شهاب

مع رحيل الشّاعر والكاتب الفلسطيني مريد البرغوثي، يفقد الخطاب الفلسطيني صوتاً حقيقياً، إذ تبدو تجربته الإبداعية جزءاً من خطاب جيل المبدعين الفلسطينيين، الذين عاينوا محطات معنى انتزاع الوطن، والتطويح بهذا الوجود إلى مسارات الاغتراب والمنفى والمقاومة. ومع كل رحيل لصوت فلسطيني تبدو مُعاينة تجارب، كالنكبة والنكسة والاقتلاع عامة أشدّ صعوبة، ولاسيما حين تفقد رافداً خطابياً تأمل هذه التجربة التي تصاغ في جزء كبير منها، على التذكر واستدعاء الحدث، كما قراءة الأثر، ما يعني أنّ ثمة قيمة مضاعفة للنتاجات الإبداعية الفلسطينية كافة، التي تتصل بالأجيال التي واجهت لحظة الارتطام التاريخي لتكوين فلسطين، وتفتتها مادياً، وخطابياً، ومعنوياً، وهكذا يبدو سفر البرغوثي «رأيت رام الله» الأكثر تجذّراً في وعي الفلسطينيين والعرب، فهو صيغة لا تحتمل تخصيص الذاتي، أو الأنا التي تتولى تكوين اللغة بوصفها تحيل إلى مريد – وهو يعاين مدينته رام الله ـ إنما هي محاولة لتكوين وعي الفلسطيني، وذاك الجيل الذي وجد فلسطينه، وفقدها، وحين يقول رام الله، فإن ذلك يتجاوز التجزئة ضمن مجاز مرسل، لتمسي فلسطين التاريخية برمتها، وحين يعبر الجسر فإنه يمضي من حدود الخارج إلى الداخل مسكوناً بوعي الجمع.
 
المعنى الآخر للعودة
 
إن قيمة كتاب «رأيت رام الله» تبدو متّصلة بنزعة جدلية، كونها تحتمل القدرة على بناء متوالية بصرية وشعوريّة لجيل البرغوثي، ولكن الأهم أنها تجسّد مشهد اللقاء مع أرض غابت عن أنظارهم، فحضرت خطابياً أو جزئياً على المستوى المادي، ومع ذلك ففلسطين غائبة لدى أجيال، ربما لن يمتلكوا يوماً هذه الفرصة في رؤيتها. ولا يمكن لنا نحن الذين رأينا النور خارج فلسطين، إلا أن نعلق في خطابات هؤلاء الذين فقدوا فلسطينهم، وعادوا إليها، ويمكن القول بأننا نعلق أيضاً في مشاعرهم، وعواطفهم، وذواتهم، على الرغم من نمط تعلقهم بفلسطين، الذي يبدو أقرب إلى أنماط الخسران، حيث تبدو اللغة مثقلة بالحنين، والأسى. وهذا ما كان يحذّر منه مريد البرغوثي، الذي استمعت إليه في ندوة خاصة أقيمت في جامعة جورج تاون في الدوحة، حينها بدا رافضاً لهذه اللغة التي يغرقها ضباب الحزن، أو تلك التي تتوشح بقتامة غير مبررة، وكأنها لا تقتل الأمل في دواخل جيلهم وحسب، إنما في وعي الأجيال القادمة، ولاسيما تلك التي لم تعرف فلسطين إلا عبر المتخيل الإنشائي، ولعل هذا يصدق حين قرأت قبل أيام منشوراً للصديق خالد الحروب يتحدث فيه عن نص أرسله لمريد بعنوان «وأنا رأيت بيت لحم يا مريد» وما كان من رد الشاعر الراحل، الذي رأى أن نتخفف من صيغ الحزن، وأن نضاعف من الأمل، وهكذا يمكن أن نلمح أن مؤلف «رأيت رام الله» ينطلق من إدراك للمستوى النفسي، الذي يمكن أن يمارس أثراً سلبياً في تعميق أو تأكيد المستحيل، لقد كان مريد البرغوثي متفائلاً، وعميقاً، وصادماً في الآن ذاته.
لا يمكن أن نعدّ صيغ تلك الكتابات التي تبحث في معنى العودة، إلا نصاً يتجدّل في وعي المكوّن الأعظم للمروية الفلسطينية، وهي تبدو شديدة التباين، على مستوى المنظور، ولكنها ربما تعلق أحياناً في الحزن، وتؤطرها ظلال داكنة من التشاؤم، تغرق في بناء صورة فلسطين المتخيلة، بوصفها الفردوس المفقود؛ فنخلع عليها تكوينات مثالية تمارس دوراً إغوائياً، غير أن هذا الاندفاع للمتخيل في أقصى حدوده، يبدو مبرراً، إذ إن تعلقنا بفلسطين تعلق يتصل بالوجود، فهو لا يستجيب فقط لنزعات عاطفية، إنما إلى ذاك الحق الساكن في دواخل كل إنسان، أو كل شخص في العالم يؤمن بأن الحق مقدس، وبأن التسامح يبدو ترفاً حين لا يرتبط باستعادة الحق؛ على الرغم من أننا لسنا مثاليين بالمطلق، ولا توجد أرض أو وطن مثالي بالمطلق، وهكذا أستعيد رواية سحر خليفة «الميراث» وهي تعكس إحدى صيغ هذه المعضلة باقتدار لافت.
 
 
إن عودة إدوارد سعيد ومحمود درويش ومريد البرغوثي، تكمن في اللغة التي تبقى في تموجاتها وترددها لتمسّ الفلسطيني، ولا أعني ذاك الذي يمكث في الحاضر، إنما ذلك الذي سيأتي من بعيد أو ذلك القائم في المستقبل؛ ولهذا تتخذ هذه الخطابات صيغة مضاعفة في تشكيل صورة للذات الفلسطينية، التي شهدت الانكسار، والأهم أنها تخلق فلسطين الواقع، تلك التي بدت في كامل بهائها، وتناقضها. إننا مسكونون بوصفنا شعباً فلسطينيا بنزعتين على طرفي نقيض، فهناك من يسقط بالتشاؤم الكلي، وهناك من يبقى حاملاً للتفاؤل، وكلا التوجهين يقسوان على ذاتهما، على الرغم من محاولات نفي المرارة عبر بناء متخيل يتصل بتضخيم الذات الفلسطينية. إنها تلك الصيغة التي في ظني رغب مريد في تجاوزها؛ أي بأن نكون كما نحن (عاديون) وأن تكون فلسطين هي الوطن، إذ لا يمكن لنا أن نجعل اللغة شديدة التوتر، حين نعبر عن الحزن، أو الفرح، أو الحنين، وأن نبقى في وعينا القائم على الحفر في الوجود، بكل ما امتلكنا من قوة، ربما لا أمتلك قدرة على وصف كتاب البرغوثي، كما فعل إدوارد سعيد حين أدرك هذا المزيج من الحزن والعاطفة، الذي يأتي بالتجاور مع أفق واضح للرؤية يتجاوز صخب اللغة، كما علّق في مقدمة الكتاب، حيث قال: «إن عظمة وقوة وطزاجة كتاب مريد البرغوثي تكمن في أنه يسجل بشكل دقيق موجع هذا المزيد العاطفي كاملاً، وفي قدرته على أن يمنح وضوحاً وصفاء لدوامة من الأحاسيس والأفكار التي تسيطر على المرء في مثل هذه الحالات». وفي موقع آخر يؤكد على ذلك: «إن كتابة البرغوثي، وبشكل مدهش حقاً، كتابة تخلو من المرارة» إنها كتابة تناقض معنى الأفول، وتستطلع مستقبلاً ما، لا يخضع لهذا القدر من السلبية.
لقد اختزل مريد البرغوثي كل ما يمكن أن يتلبسنا حيال فلسطين، بما في ذلك الارتباط والانشطار، فضلاً عن الوقوع في التشنج العاطفي واللغوي، لقد قدم لنا مقاربة في كيفية معرفة فلسطين.. فهل يمكن أن نعدّها ذلك التصور الكلي لأرض تاريخية تتصل بتاريخ عميق؟ أم تلك التي أمست على شكل نقاط صغيرة تضيء كنجوم في ليلة معتمة، كما وصفها الدارس والباحث في الخطاب ما بعد الكولونيالي روبرت يونغ! ويبقى السؤال الأكثر ألماً كيف نرى فلسطين؟ ولعل ما سبق قد جعل من نص البرغوثي شديد التعلق والارتقاء، حيث يجيب لمن يأتي بعده من فلسطينيين.. هكذا رأيت فلسطين.. هذا السؤال الذي يطرق في وعي كل فلسطيني، كما هو تطرق عبارة كنفاني لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟ هل سنتمكن يوما من العودة إلى فلسطين؟ أم سنمضي من هذه الحياة، ونحن لا نملك سوى اللغة التي تحيل إلى فلسطين غير أننا نمارس قراءة وجودها، أو كما يعبر مريد بقوله: «الآن ها أنا أنظر إليها، إلى الضفة الغربية من نهر الأردن. هذه هي «الأرض المحتلة» إذن؟ لم يكن أحد لأكرر له ما قلته منذ سنوات لحسين مروة من أنها ليست مجرد عبارة في نشرات الأنباء». ليردف بعد ذلك قائلاً: «من يجرؤ على تجريدها الآن وقد تجلّت جسداً أمام الحواس؟».
ربما تبدو مواجهة فلسطين بالنسبة إليّ أو للأجيال التي أنتمي إليها أقرب إلى قراءة نص من منطلق اللذة أو المتعة، حسب تعبير رولان بارت، فبينما نحن نحاول أن نقترب من فلسطين، إذ نراها كامرأة أو عشيقة… نسعى لتجاوز بعض الفصول والصفحات لنبحث عما نريد من فلسطين، فالكل لديه ذاك المتوقع، أو ذاك المأمول، أو من لديه فلسطينه المشتهاة، فتمسي أنثى في متخيل شعب لم يمسها، لقد استحالت إلى مجرد حلم يقرأ عنه، يشاهده في الصور، ونشرات الأخبار، وبعض الحكايات التي ربما يلتقطها من الأب والجد، وبعضهم بات الآن تحت التراب، هكذا تبقى المروية في لانهائيتها، وهي تعيد إنتاج ذاتها، ولا تنتهي، ولتبقى تلك اللغة تتعالى على الموت والخراب، والنفي والتشتيت، فهل يمكن أن يتحول الخطاب حول فلسطين إلى صخرة سيزيف طالما «الآخرون هم أسياد المكان».
 
الغريب لا يعود إلى حالاته الأولى
 
يقول مريد البرغوثي في كتابه: «لكنني لا أعرف أن الغريب، لا يعود أبدا إلى حالاته الأولى. حتى لو عاد. خَلَص. يصاب المرء بالغربة كما يصاب الربو. ولا علاج للاثنين. والشاعر أسوأ حالاً، لأن الشعر بحد ذاته غربة». هذا يعني أن وعي الغريب يبدو أمراً لا انفكاك منه، لقد انقضت تلك الفترة التي يمكن أن تنمو فيها في مكانك الطبيعي أو ببساطة في وطنك، لقد بات التشوه في داخلك أمراً محتوماً، ولاسيما لمن يعتريهم ألم أنهم غرباء.
إنه ذلك الاغتراب المضاعف عن المكان القائم فيه، فضلاً عن المكان الذي تحلم بالعودة إليه، ليتعالى التشقق الداخلي، أو التفتت بين وعي من ولد في المكان، واقتلع منه، غير أنه عاد ليجد أنه لم يعد كما كان يتوقع، أو كما كان يراه.
في كتاب مريد البرغوثي تبدو صيغة الغائب للتعبير عن ذوات المحتلين (الغرباء) فهو يعبر عن وجودهم بضمير الغائب هم، ومنهم، وهكذا يمارس إبعاداً للمغتصب عن الفضاء، فهم ـ فيزيائياً ـ حاضرون، ولكنهم لا ينتمون إلى المكان، وفي المقابل فإن الذات الفلسطينية الغائبة تبدو هي الحاضرة، والقائمة في المكان؛ لذلك يلجأ إلى ضمير المتكلم: «الآن أمر من غربتي إلى وطنهم؟ وطني؟ الضفة الغربية وغزة؟ الأراضي المحتلة؟ المناطق؟ يهودا والسامرة؟ الحكم الذاتي؟ إسرائيل؟ فلسطين؟».
تمارس الضمائر عقيدة أيديولوجية، كما تمارس المسميات المختلفة لتأويل فلسطين نسقاً في محاولة إدراك ذلك التعريف الموتور لفلسطين في وعي الوجود، والسياسة، والاختلاف والانقسام، والقرارات الدولية، ولكنه ينفي كل شيء لينهي جملته بالحقيقة المطلقة لتأكيد الاسم (فلسطين) فقط.
لا يمكن اختزال أبعاد الكتاب لكونه يبدو عالقاً في الأبدية التي تجعل من فلسطين قائمة في اللغة، ولكنها ليست إلا ذلك الواقع عل الرغم من العطب العاطفي لضمورها على مستوى الإحساس المادي، ولكني أريد أن أؤكد على أن مقاربة البرغوثي لتكوين فلسطين في أحد أبعادها ينهض على أن نتخفف من المتخيل، أو ذلك المتعلق بالرمز، والتجريد، لقد أراد أن يجعلنا ندرك أن فلسطين باقية على الرغم من تعدد المصطلحات والزمن والتاريخ؛ ولهذا أتوقف مع هذه الفقرة كي أعيد موضعة عقيدة الكتاب القائمة على أن فلسطين هي تلك الحقيقة، ولا شيء غيرها فقط: «عندما تختفي فلسطين كسلسال على ثوب السهرة، كحلْية، أو كذكرى أو كمصحف ذهبي، أي عندما نمشي بأحذيتنا على ترابها، ونمسح غبارها عن ياقات قمصاننا، وعن خطانا المستعجلة إلى قضاء شؤوننا اليومية العابرة، العادية، المضجرة، عندما نتذمر من حرها، ومن بردها، ومن رتابة البقاء فيها طويلاً، عندئذ نكون قد اقتربنا منها حقاً».
 
كاتب أردني فلسطيني