عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    16-Jan-2022

القضاء يضع الأمور في نصابها* د.نهلا عبدالقادر المومني

 الغد

(..وعلى ما تقدم فإن المحكمة تجد بأن الواقعة الجرمية التي أسلفناها ونتيجتها هي وفاة المغدورة والمعيشة المتدنية المستوى من جميع نواحيها التي كانت تحياها لا تتحمل مسؤوليتها المتهمتان لوحدهما- وإن كنا لا نقيلهما من حصتهما من المسؤولية- بل بتضافر يتحملها جميع أفراد اسرتها ابتداء بوالدها المرحوم واشقائها والذين مثلوا أمام المحكمة كشهود للنيابة العامة محملين بصك براءة من أخطائهم وخطاياهم تجاه المغدورة والمتهمتين.. إلا أن المحكمة تجد أيضا أن المؤسسات الرسمية بهذه الواقعة قد تخلت عن مسؤوليتها ووقفت موقف المتفرج على معاناة هذه الأسرة متغاضية عن دورها القانوني والتزامها الدستوري وأن المحكمة تستغرب بالدرجة الأولى موقف(إحدى المؤسسات) التي أنشئت وأسست لغايات على رأسها الأمن الاجتماعي كونها قد علمت قبل الوفاة بأوضاع هذه الأسرة .. وكذلك موقف (المحافظ) الذي اكتفى بأخذ التعهدات والمواثيق على الأشقاء والشقيقات بعدم التعرض للمغدورة والمحافظة عليها، دون أن يحرك ساكنا تجاه معاناة هذه الأسرة من الفقر والمرض اللذين استحكما حتى أحالا حياتها إلى جحيم، فأي مواطنة تقتضي وعلى فتيات بمثل سن وحال المتهمتين والمغدورة أن يقضين حاجتهن بالعراء بمدينة في القرن الواحد والعشرين .. وإن المحكمة إذ أسلفت هذا التنويه فذلك اتساقا مع دور السلطة القضائية كإحدى سلطات المجتمع والدولة وسعيا لوضع الأمور في نصابها..).
هذا بعض مما نطق به قرار الحكم الصادر عن محكمة الجنايات الكبرى في الأردن في إحدى القضايا ذات البعد الإنساني والاجتماعي والمتمثلة في وفاة فتاة معاقة بسبب الظروف التي وضعت بها من قبل شقيقاتها اللواتي تولين رعايتها بعد وفاة الوالدين.
ما يستدعي الوقوف مطولا امام هذا القرار النابض بمضامين إنسانية وحقوقية عميقة، مجموعة من الركائز التي رسخها هذا القرار انطلاقا واتساقا مع دور السلطة القضائية كإحدى سلطات المجتمع والدولة وكما جاء في فحواه:
أولًا: يؤكد هذا القرار الحقيقة الراسخة بأن القضاء المستقل والنزيه هو خط الدفاع الأول عن حقوق الإنسان، والآلية الوطنية الأهم والأسمى والأقوى التي تعمل على حمايتها وانفاذها على أرض الواقع.
ثانيا: يكرس هذا القرار فكرة المسؤولية المشتركة لمؤسسات الدولة في حماية حقوق الإنسان وأعمالها على أرض الواقع، هذه المسؤولية التي تؤكد على فكرة دولة المؤسسات والقانون التي لا يعمل كل منها في إطار منفصل وإنما في حلقة تكاملية تؤسس لحالة من الفهم العميق لأهمية التنسيق بين هذه المؤسسات واضطلاع كل منها بدوره، وأن النتيجة الحتمية لتقصير جهة ما هو انتهاك مباشر لحقوق الإنسان وحقه في العيش بكرامة.
ثالثا: يتمثل أحد التزامات الدولة الأساسية في مجال حقوق الإنسان في انشاء مؤسسات لإعمال حقوق الإنسان على أرض الواقع ومراقبة مدى انفاذها، إلا أن وجود هذه المؤسسات ليس كافيا بحد ذاته ما لم يترافق مع الفعالية والكفاءة في الأداء والإيمان بدورها في النهوض بواقع حقوق الإنسان، ومحوريتها في وقف الانتهاكات والحد منها، وإن وجود مؤسسات يقتصر عملها على تطبيق إجراءات شكلية ما هو إلا شكل من أشكال الترهل الإداري الذي يتطلب إصلاحا إداريا شاملا.
إن القرار أعلاه وبحكمة القضاء ورؤيته الشاملة المستندة إلى القانون والواقع وقبل كل شيء إلى الأبعاد الإنسانية يضع الأحداث في سياقاتها الاجتماعية والإنسانية والواقعية، فلا يمكن فصل ما يحدث من أفعال خارج سياق القانون عن الظروف التي قد يحياها الأفراد دون حقوق ومستوى معيشي ملائم وكريم.
إن وضع الأمور في نصابها وبيان أوجه الخلل والتقصير من قبل مؤسسات الدولة هو جزء أصيل من مبدأ سيادة القانون الذي يعلو على الجميع أفرادا ومؤسسات وسلطات، وإن هذا المبدأ وكما أشارت إلى ذلك الورقة النقاشية السادسة للملك عبدالله الثاني ابن الحسين لا يمكن أن يترسخ إلا بوجود جهاز قضائي كفؤ ونزيه وفاعل.