الغد
قرأتُ مؤخراً رواية الكاتب الروسي العظيم أنطون تشيخوف «حكاية مملة» للمرة الثانية، وكنت قرأتها لأول مرة وأنا طالبٌ في الجامعة حيث، كان انطباعي بأنها مجرد سردية لحياة رجل عجوز متذمر، يعيش أزمة وجودية رغم نجاحه المهني وشهرته. وحينها بدا لي أن بطل الرواية، الذي منحته الحياة كل شيء، يبالغ في شكواه من الروتين والملل، لكن بعد قراءتي الثانية وأنا في عمر يكون فيه الإنسان قد خبر من الحياة ما خبر، لأُدرك بأن الرواية أعمق بكثير مما تصوّرت، وبأنها ليست مجرد حكاية رجل عجوز فاقد للشغف، بقدر ما تنمُ عن فكرٍ تأملي، فلسفي يرى القضايا الإنسانية من زاوية مختلفة، ولديه القدرة على رؤية المشهد المتكامل الذي يظهر عبثية الحياة، وصراع الإنسان مع ذاته وكأنه يدور هائماً على وجهه في تيه لا ينتهي!
فكلما توغلنا في العمر، تحاصرنا التساؤلات الوجودية الكبرى في محاولة لفهم الذات وإعادة تقييم الرحلة: ما معنى الحياة؟ وهل كان انقضاء العمر بالجري وراء طموحاتنا يستحق العناء؟ إن عبثية الحياة تظهر في التفاصيل اليومية المتكررة، في مشاريع الأحلام التي تحولت إلى ذكريات باهتة، والعلاقات الإنسانية التي فقدت رونقها وأصبحت مجرد واجبات اجتماعية.
فمع مرور الزمن، يجد الإنسان نفسه محاصرًا بأيامٍ مكرورة، حيث الأحداث متشابهة، والحياة فاقدة لعنصر المفاجأة فيشعر بالعدمية، ويفقد الشغف الذي كان يملأ حياته في عنفوان شبابه.
وربما يشعر الإنسان بالغربة والوحدة ليس لغياب الآخرين، بل انعكاساً لافتقاده التواصل الحقيقي معهم. وتزداد هذه المشاعر حدّةً مع تقدّم العمر، فيصبح الإنسان أكثر وعيًا وإدراكاً لهذا الفتور العاطفي، الذي ينهك العلاقات تدريجياً ويتركه حبيساً في صومعته! يراجع مخرجات حياته وكأنها جملة من القرارات غير الصائبة، أو الفرص الضائعة التي لم يحسن استغلالها. هذا الصراع الداخلي يعكس طبيعة الإنسان الساعي إلى الكمال، ذاك الذي يلازمه الشعور الدائم بأنه كان بإمكانه أن يفعل المزيد. لكن هذا النقد الذاتي، رغم قسوته، يشكل جزءاً من محاولته لفهم ذاته ومواجهة الحقيقة. إنه صراع بين طموحاته وما حققه بالفعل، وبين ما أراده يوماً وما آل إليه في النهاية.
السؤال المركزي الذي يطرحه تشيخوف: هل يشعر الإنسان بالاكتفاء حقاً عندما يحقق نجاحاً أكاديمياً أو مهنياً؟ فرغم النجاحات الذي حققها بطل الرواية، إلا أنها لم تساعده في فهم الذات أو إيجاد السعادة. فالإنسان بحاجة إلى تحقيق ما هو أهم من الإنجازات ليشعر بالامتلاء الحقيقي، مثل بناء روابط إنسانية قوية، وامتلاك شغف يثري روحه، وإيجاد معنى لحياته يتجاوز حدود العمل والنجاح.
فالبعض قد يجد السعادة في لحظات عابرة عاشها في الحب الذي منحه أو تلقاه، وفي الذكريات التي نسجها مع أحبته. وربما تكمن قيمة الحياة في سعي الإنسان المستمر لفهم ذاته والتأمل في معنى وجوده.
فالشيخوخة ليست نهاية الرحلة، بل بداية جديدة من التأمل والمراجعة، حيث يجد الإنسان نفسه أمام حصيلة سني عمره، إنها فرصة لرؤية الحياة من منظور أعمق، لفهم ما كان حقاً ذا قيمة، وإعادة اكتشاف الجمال في التفاصيل الصغيرة التي قد تغيب عنّا وسط انشغالاتنا. ربما لا توجد إجابة قاطعة عما إذا كانت الحياة تستحق العيش أم لا، لكن طرح الأسئلة الوجودية يبقينا أكثر وعيًا بوجودنا، وأكثر تقديرًا للرحلة التي خضناها، بكل ما فيها من نجاحات وإخفاقات، من فرح وحزن، ومن شغف وملل.