عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    22-Feb-2021

بلاغة الانشطار وعنف الفضاء في رواية «مرافئ الحب السبعة»

 القدس العربي- ياسين الشعري

تقترن التجربة الروائية العراقية اقترانا وطيدا بسرديات الشتات، وأدب المنفى، وتعبر عن تصدع هوياتي واغتراب وتشرد وهجرة دائمة من فضاء الوطن إلى فضاء المنفى، نتاجا لما مرّ به العراق من مراحل عصيبة، فمن الانقلابات العسكرية إلى الحرب العراقية الإيرانية إلى حربي الخليج الأولى والثانية، فالحروب الأهلية، أحداث دامية وعواقب وخيمة، تتأرجح بين أسر واغتيال ونفي وإبعاد، دفعت بالروائيين العراقيين إلى الفرار من العراق خوفا على أنفسهم، مرتادين دولا ومنافي، مستبدلين بوطن طاغ وغاشم أوطانا/ رقعا جغرافية، على نحو ما فعل غائب طعمة فرمان ومحمود سعيد وعالية ممدوح وفيصل عبد الحسن وسامي النصراوي وعبد الرحمن مجيد الربيعي وعلي القاسمي وغيرهم… وقد هيمنت على كتابات هؤلاء ثيمات أساسية «كثيمات الحرب والمنفى والموت، والغربة والانتماء، والضياع والتيه والفساد السياسي، والنوستالجيا والجنس والحلم، والانتقاد والفقدان والسخرية» (عبد الرحيم العلام، الفوضى الممكنة) وكشفت تجاربهم الإبداعية عن عمق المأساة وألم فراق الوطن، وانشطار هوياتهم وانكسار آمالهم، ووقوعهم تحت أسر ثنائية هوياتية (الوطن/ المنفى) تمارس عنفها على الذوات فتحيلها إلى مجرد ذوات فارغة مهوشة.
 
ثيمة المنفى
 
في رواية علي القاسمي «مرافئ الحب السبعة» نقف عند ثيمة أساس من الثيمات التي خاض فيها الروائيون العراقيون وهم في بلاد المهجر، وهي ثيمة المنفى، ويسعى إلى تمثل تداعياتها على الذات النصية، وما تلجأ إليه هذه الذات، في سبيل التعبير عن آلامها، وهي تقاسي النفي والاغتراب، من إمكانات فنية، تتبدى من خلالها ذاتا متشتتة ومتصدعة، تعاني انشطارا هوياتيا، يجعلها فاقدة لانتمائها وكينونتها، فلا هي تعيش في بلدها، الذي أرغمت على هجره، ولا هي مستأنسة بالفضاء الجديد، فتنسى ما ألم بها من مآس وهموم.
بطل الرواية هو رمز للمنفيين واللاجئين والفارين من ألسنة الموت، تصور معاناته وهمومه وتأزماته النفسية، وما يكابده في منفاه من وجع الحنين والشوق إلى الوطن، الذي أبعد عنه. تكشف عن خيباته وانكساراته وتمزقاته وآلامه وانشطار هوياته بين «هنا» و«هناك» بين الوطن والمنفى. ذلك الوطن الذي اضطر سليم الهاشمي إلى الفرار منه رفقة صديقه زكي، إثر انقلاب عسكري حدث في العراق، أضحى مهددا لحياته، ولحياة كثير من المثقفين العراقيين، تاركا وراءه أهله وقريته، ولم يحمل معه غير حفنة من ترابها، وشال أمه وريشة من ريش بطته، وخوصة خضراء انتزعها من إحدى سعفات نخلتهم. أضحت تذكارا لوطنه العراق، أو قل الوطن الجميل، ترمز إلى أن العراق ما زال حاضرا في ذهنه، بأهله وأرضه ومائه ونخله، على الرغم مما كابده بسبب حكامه، الذين كانوا سببا في ارتحاله الاضطراري ونفيه الاختياري. يستقر به المقام رفقة زكي في لبنان يقاسي الغربة، ويتجرع حمى فراق وطنه مجبرا، غير أن الأقدار تشاء أن يغتال زكي في شوارع لبنان، فيزوره والده ويدفعه إلى السفر إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وهناك سيشتد به الحنين، ويعبث به المرض، فيحول لياليه إلى أرق وسهاد، لم يكن يجد برءا منه إلا شال أمه الذي كان يربط به رأسه، فيخف ألمه، وتتداعى ذاكرته شوقا وحنينا إلى أيامه الخوالي.
أنجزت الرواية تمثيلا لمعاناة ذات عليلة تقاسي ألم النفي والاغتراب، وتذوق مرارة البعد عن الوطن. وهي معاناة لا سبيل إلى التخلص منها إلا بالعودة إلى أحضان الوطن، فعلى الرغم من أن سليم الهاشمي أجبر على فراق العراق، إلا أنه يحن إليه، لكنه لا يحن إلى عراق الحاضر، وإنما إلى عراق الماضي، حيث طفولته وصباه، يمثل العراق في قريته الصغيرة وفي نخلها وأهلها، ويكابد نفيه باسترجاع طفولته توقا إلى وطن جميل، ونفيا لوطن طاغٍ يحيف بأهله، ينفر من فضاء المنفى باعتباره فضاء عنيفا وعدوانيا، ولا يشعر بالانتماء إليه، فيظل هاجس الوطن ماثلا في ذهنه وأخيلته. جاء في الرواية «أهيم في المدينة الصاخبة الصماء. تجول عيناي في شوارعها. تطالعني جدرانها الحزينة، كالحة معتمة دونما أي زينة. تختفي في عينيّ معالمها، بناياتها، أشجارها، أضواؤها، ويتلاشى صخبها فلا يبلغ سمعي. تتراءى لي بساتين قريتي، نهرها الرقراق، جداولها المعطاءة، نخيلها، أزقتها، منزلنا القديم. يسري عبق الوطن في عروقي، وأوردتي، وشراييني، ومفاصلي، وجميع مسامات جسدي، مثل دمي، ويترنح الوجيب في قلبي».
 
أفرز التباس الهوية وانشطارها بين فضاء المنفى وفضاء الوطن انشطارا مماثلا في زاوية النظر والضمير السردي، حيث تتحول الرؤية حينا من الرؤية المصاحبة إلى الرؤية العالمة، ويتغير الضمير السردي من ضمير الغائب «هو» إلى ضمير «أنا المتكلم» بطريقة فجائية.
 
الشعور بالانتماء والانجذاب
 
يقدم هذا المقتطف صورتين متناقضتين للوطن والمنفى، ففي حين عمد السارد/ الشخصية إلى اختيار ألفاظ دالة على بؤس فضاء المنفى، ما يوحي بعدم استئناسه به (جدرانها الحزينة، كالحة، معتمة، تختفي في عيني…)؛ يختار للوطن/ القرية أوصافا تشي بالجمال والرونق، وتُشعر بالانتماء والانجذاب (نهرها الرقراق، جداولها المعطاءة، يسري عبق الوطن في عروقي…). لقد فقد السارد/ البطل الشعور بجمال المنفى، إلى درجة أنه أحس بها صامتة رغم صخبها، فاقدة لملامح الجمال، الذي يشد الذات إلى موطنها الأصلي، ويجعلها أسيرة ذكراها وماضيها. وبذلك، فهي تتموضع بين حدي الوجود (المنفى) والانتماء (العراق) ويتجاذبها زمنان: زمن الماضي حيث السكينة والاطمئنان، وزمن الحاضر، الذي هو زمن التربص والتهديد والاغتيال. ولما كانت الذات النصية تعيش في عالم المنفى الذي هو »عالم غامض مشظى، وبلا معنى ومناخ تلفه الحيرة والشك؛ فمن الطبيعي أن تفقد هذه الذات توازنها ووحدتها وتماسكها؛ فالذات الواحدة لم تعد ذاتا، بل تحولت إلى ذوات، وهذا يعني أنها أصبحت هامشية أو بتعبير آخر لم يبق منها إلا الظل» (شكري عزيز الماضي، أنماط الرواية العربية الجديدة). فسليم الهاشمي موزع بين «هناك» حيث العراق وطنه الذي استولى عليه الانقلابيون، و«هنا» حيث الغرب عالم المنفى والاغتراب. هذا العالم الذي فصل، بما هو فضاء الاستبعاد والاغتراب، الذات عن وطنها وماضيها، وألقى بها في عالم جديد لا تشعر فيه بالاستئناس، ولا تتلاءم معه، وتحاول تجاوزه بتشغيل الذاكرة، واسترجاع ماضيها، وتمثيل عالمها المفقود في أبهى حلة. وبذلك، يمكن القول إن الذكرى المسترجعة هي بديل للعالم الذي ألقيت فيه الذات، بديل للحرمان الذي يشعر به، هي حكاية ماض مفقود، وذكرى وطن حرمت منه الذات. غير أن هذه الحكاية المستعادة عوض أن تبرئ الذات من اعتلالاتها تسهم في تناميها وتضاعفِها، حتى «أضحت حياة سليم اغترابا لا يطاق وعذابا متصلا، وصارت أماسيه كئيبة موحشة، وغدت لياليه طويلة مثخنة بالشوق والحنين والأنين. وبدا الشحوب على وجهه والنحول على بدنه».
 
تداعي الذاكرة وانشطارها
 
وقد أفرز التباس الهوية وانشطارها بين فضاء المنفى وفضاء الوطن انشطارا مماثلا في زاوية النظر والضمير السردي، حيث تتحول الرؤية حينا من الرؤية المصاحبة إلى الرؤية العالمة، ويتغير الضمير السردي من ضمير الغائب «هو» إلى ضمير «أنا المتكلم» بطريقة فجائية. كما أفرز ـ أيضا ـ تداعي الذاكرة وانشطارها بين ماضي الذات الجميل وحاضرها المتخم أسى وحنينا، فالذات النصية تستمد مادتها الحكائية من الذاكرة، التي تعد هنا »خزانا لمادة الحكي» ومن سمات عملية التذكر أن »لا تخضع لمنطق التسلسل أو التتابع الذي تمدنا به القصة المتكاملة الأحداث والشخصيات» (سعيد يقطين، القراءة والتجربة). فعن طريق هذا الأسلوب تكشف لنا الرواية ما يجول في ذهن سليم الهاشمي، وتقدم لنا صورة عن ذاته المنشطرة، حيث سرعة التداعي والتدفق وارتداد الذاكرة إلى الماضي من صفات الذات المنشطرة الواقعة تحت أسر المنفى وعنف فضائها. وهو تذكر غير مقيد، يسهم في خلخلة نسق الحكاية المتدرج، ويعمل على تشظيتها، فتنفك من قيود الخطية والتسلسل، ويغدو السرد موسوما بالتوتر والقلق والفوضى، تتخلله مفارقات زمنية، يبقى على رأسها الارتداد إلى الماضي، وينكب على ما هو نفسي وجداني، عبر الاستبطان الذي يتكفل بتصوير تجربة الذات النفسية، وهمومها واعتلالاتها، فَيُحِل الزمن النفسي محل الزمن الواقعي، من خلال الاستغراق في جوانية الذات، وتصير الكتابة بالهذيان والتوهم بديلا للكتابة الواعية، انسجاما مع الحالة التي أصبحت عليها الذات النصية وقد فارقت وطنها، فالسرد هنا يأتي عاكسا لتجربة الذات مع فضاء المنفى، متماثلا مع ما تشعر به…
هكذا، يصبح السرد في الرواية مجسدا لخراب الذات وانشطار هويتها، كاشفا العنف الذي مارسه الفضاء عليها، سواء كان فضاء وطنٍ أو فضاء منفى، متوغلا في أعماقها التي تثوي في داخلها مشاعر مخربة وأحاسيس إنسانية مفجوعة، كثيرا ما تحولت ـ في المنفى ـ إلى جذوة نار تلتهب حنينا واشتياقا إلى وطن عنيف، انتصرت سلطتُه، وأرغمت الذاتَ على مغادرة المنفى إلى المغرب علها تجد فيه خير معوض لوطن يحيف بأهله، ولا يكف عن تجريعهم ألم النفي والإبعاد، وتشريدهم في البلدان والأصقاع…
 
كاتب من المغرب