عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    04-Nov-2025

سبعة أيام من "أميركا أولا"*جمال الكشكي

 الغد

في مساء الأحد، الخامس والعشرين من أكتوبر 2025، ارتفعت عجلات الطائرة الرئاسية الأميركية عن مدرج البيت الأبيض، حاملة دونالد ترامب نحو آسيا، فيما كانت شعاراته الشهيرة «أميركا أولا» و»لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى» ترفرف في الأفق.
 
 
داخل المقصورة، ضوضاء خفيفة من مساعديه ومستشاريه، أوراق مبعثرة على الطاولة الصغيرة، ووجوه متوترة تدرك أن الرحلة ليست جولة دبلوماسية تقليدية، إنما كانت اختبارا لقدرة الرئيس على المناورة، وإظهار القوة في عالم يضج بالتحولات.
خارج نافذة الطائرة، أضواء واشنطن تتلاشى في العتمة، وترامب يراقب السماء كمن يحدق في رقعة شطرنج كونية، كل دولة فيها قطعة قابلة للضغط أو التحريك، وكل خطوة مرهونة بميزان دقيق بين القوة والمصالح.
كان الوصول إلى العاصمة الماليزية كوالالمبور فاتحة القمة الآسيوية، قاعة ممتلئة بالأعلام والوفود، كل ابتسامة تحمل معناها، وكل مصافحة تختزن رسائلها.
لقاؤه برئيس الوزراء الماليزي أنور إبراهيم بدا مشهدا متشابكا بين السياسة والرمز، إذ سعى ترامب لإظهار الولايات المتحدة قوة اقتصادية ودبلوماسية، قادرة على إعادة رسم خرائط النفوذ في آسيا، بينما حاول الماليزيون التحدث عن شراكات متوازنة مع القوة العظمى.
من ماليزيا إلى اليابان، ثم كوريا الجنوبية، كانت الطائرة تعبر آلاف الأميال فوق محيطات داكنة، فيما لا ينقطع الحديث داخل المقصورة عن الاستثمارات والتجارة والضرائب والوظائف.
الأرقام كانت لافتة، والرسائل الاقتصادية تحمل في عمقها نبضات سياسية، كل اتفاق يقرأ في واشنطن كما يقرأ في بكين.
وفي سيول، حيث القمة الأشد رمزية، انعقد اللقاء الذي طال انتظاره بين ترامب والرئيس الصيني شي جين بينج، واستمر مائة دقيقة كاملة، مشهد تتقاطع فيه البراجماتية مع التاريخ.
ترامب متوثب يحرك الأوراق، يطالب ويضغط، يعيش اللحظة كما لو كانت معركة فاصلة، بينما شي جين بينج هادئ، صامت في أغلب الوقت، يبتسم بتؤدة، كل كلمة محسوبة، كل إيماءة تزن الموقف، كمن يلعب الشطرنج بعقل بارد، وعينين نصف مغلقتين.
النتائج التي خرجت بها القمة حملت رمزية بالغة: تفاهمات أولية حول المنتجات الزراعية الأميركية، والتعاون في مواجهة تدفق مخدر الفنتانيل القاتل إلى أميركا، وفتح مسارات أكثر شفافية في تجارة المعادن الأرضية النادرة، تلك التي تمثل حجر الزاوية في التفوق الصناعي والتكنولوجي.
لم تكن الاتفاقات نهائية، لكنها شكلت خطوط تماس جديدة بين أكبر قوتين اقتصاديتين في العالم.
أثر الجولة تجاوز آسيا إلى الشرق الأوسط وأوروبا وأوكرانيا.
الهدوء النسبي بين واشنطن وبكين خفف الضغوط الاقتصادية على الولايات المتحدة، ومنحها هامش حركة أوسع تجاه إيران والقضية الفلسطينية، كما قلص احتمالات التوتر التجاري الذي كان يهدد الأسواق الأوروبية، ويمس تمويل الحرب الأوكرانية.
أما روسيا فوجدت نفسها أمام معادلة أكثر غموضا، إذ تتبدل الموازين ببطء بينما الاقتصاد العالمي يتنفس بقدر من الهدوء الحذر.
في خلفية المشهد، ظلت الطاقة الأميركية القادمة من ألاسكا تحمل معناها الرمزي، رسالة مزدوجة للقوى الإقليمية والعالمية تؤكد قدرة الولايات المتحدة على تقليل اعتمادها على نفط الشرق الأوسط وروسيا، وتعزيز أوراقها التفاوضية في أسواق الطاقة، بما يؤثر في حركة الأسعار والنفوذ.
عاد ترامب إلى واشنطن بعد سبعة أيام، محملا بالاتفاقات والرموز والدروس.
رحلة قصيرة في الزمن، طويلة في معناها، أرادها الرئيس الأميركي درسا في المناورة، إثباتا أن السياسة ليست إعلان انتصار، إنما فن البقاء في قلب اللعبة، حيث كل خطوة محسوبة، وكل إيماءة تصنع تاريخا جديدا للعالم، وعلى الإقليم العربي أن يتحرك باستراتيجية تناسب «سياسة الجولات التفاوضية البناءة».
تلك التي يحركها دونالد ترامب بجولة قصيرة، أو تغريدة صغيرة.