عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    29-Dec-2020

أنَا والحاسوبُ وحاطِبُ الليلِ

 القدس العربي-توفيق قريرة

حين اقتنيت حاسوبي الأول كنت قد شارفت على الأربعين، كنت وقتها أقرب إلى الكهولة التي أنا أتربع اليوم في عزها، ولم أقبل إلا بالعَنَتِ أنْ أعوض حروف القرطاسِ والقلم بالحروف الرقمية.
لم يكن للحروف الإلكترونية الجميلة أي طعم ولا رائحةٌ، كانت عندي كورود جميلة متشعبة الألوان غير أنها اصطناعية، أو قل كانت كغانية بديعة التكوين غير أنها عروس اصطناعية في دكان فاخر من دكاكين باعة الثياب الراقية. دَعْنَا منْ جَماليات اصطناعية أغرقنا بها عصر المدنية الفاخرة إلى ما شغل بَالي يومها باعتباري مُدَرسَ لغة عربية من دوري أن أصلحَ زَلات اللسانِ وأخط على أوراق الامتحان خطوطا حمرا تحت ما استقر في رأيي أنه لحنٌ أو غلطٌ أو تعبيرٌ قَلِقٌ في مستقره.
اكتشفت يومها أن الحاسوب يسطر مثلما أسطر وباللون نفسه ما يعده خطأ هو يرسم آليا خطوطا حمرا تحت الكلمات، عرفت بالقوة أنه يمارس عليّ الرقابة التي أمارسها أنا الأستاذ على أوراق الامتحانات حين أصلحها. حين أضع أنا مدرس العربية سطرا أحمر تحت كلمة، فعليّ أن أبين في الهامش نوع الخطأ أهو في اللغة أم في التركيب؟ أهو في التعبير أم في رسم الكلمة؛ لكن أسطر الحاسوب الحمر التي ترسم تحت كلماتي التي أكتبها بعد لأي، هي أسطر بلا مفاتيح يقول لك أخطأت وكفى ولا يفسر لك من أين دخل الخطأ الكلامَ؟
لم يكن يزعجني أن يسطر الحاسوب أسماء الأعلام، التي لا يعرفها لكن ما أزعجني أنه يعتبر خاطئا، وحدات معجمية صحتها لا غبار عليها. سمعت مثلما سمع غيري عن هذا الدماغ الإلكتروني، وبدلا من أن يقال لنا إنه يعالج المعلومات قيل لنا إنه لا «لا يخطئ». الآلة التي لا تخطئ عبقرية في عقولنا لا غير، ربما لأن عقولنا تنقصها العبقرية لذلك نؤمن بآلة تشبهنا وتتفوق علينا. علمي باللغة الذي لأجله منحت لي الشهادات الجامعية، لم ينفع مع هذا الحاسوب الذي يعمل بشكل لم أفقهه أول مرة. صحيح أنني لم أشك في صحة معلوماتي التي تثبتني على أني الأكثر ثباتا، والأكثر صحة، لكنني انشغلت بالتقصير الذي في برمجة هذا الدماغ حتى يصلح ما هو صحيح؟ ما يزال الحاسوب إلى اليوم يسطر كلمات صحيحة لأنه لم يصل إلى الكمال الذي به يستطيع أن «يحكم « حكما صحيحا على نظام الكلام العربي. المسألة ليست مستحيلة لكن الآلة لم تزود بعد بالبرمجيات الدقيقة التي تمكنها من المعالجة السليمة والدقيقة للمعلومات التي لديها حول إنجازي أنا وغيري ومعالجتنا لنصوص عربية معالجة آلية. ما به يشتغل الحاسوب هو ما وفروه له إلى هذا الحد من برمجيات. لقد سطّر الحاسوب الآن كلمة (به) في الجملة السابقة. سأتظاهر بأني أوافقه وأسترشد به سأعود إلى المقترحات التي يقدمها لي بديلات ترشدني إلى إمكان إصلاح الشكل الخاطئ بها. أجد ما يلي (بهو، بهي، بيه مثلا) وبالطبع هي أشكال من الكلمات معترف بها يعطيكها بديلا من الشكل الذي لم يجده صالحا في ذاكرته. كما ترون يخطئ المعجم الآلي لكنه وهو يخطئ يتهمك أنت بالخطأ؛ ذهنه كذهن كثير ممن «ركبوا دماغهم» واعتقدوا الخطأ في مكان حيث ليسوا فيه.
 
لم يكن للحروف الإلكترونية الجميلة أي طعم ولا رائحةٌ، كانت عندي كورود جميلة متشعبة الألوان غير أنها اصطناعية، أو قل كانت كغانية بديعة التكوين غير أنها عروس اصطناعية في دكان فاخر من دكاكين باعة الثياب الراقية.
 
مراجعة الأخطاء اللغوية هي جزء من المعالجة الآلية للغة الطبيعية، وهي بدورها جزء من الذكاء الصناعي. في هذا العالم من المعالجة، تقسم العناصر اللغوية إلى أشكال قابلة للتجزئة وتعامل على أنها وحدات رمزية أو خطية دنيا، لكن تجزئة الوحدات الكبرى، وهي النصوص والأقوال إلى كلمات، أو وحدات خطية ليس شيئا يسيرا، ولا سيما في لغة طبيعية كالعربية يمكن أن تمزج خطيا بين أكثر من كلمة. يحدث ذلك مثلا في المزج بين حرف التعريف (ال) والاسم المعرف مثل (الشمس أو القمر) أو كدمج حرف الجر مع المجرور في (به) أو حتى عناصر جملة بأكملها من نوع (يعطيكها: التي استعملناها منذ حين). المقياس الأسهل بأن يعتمد في التمييز الفراغُ بين وحدتين خطيتين، ليس ذا جدوى كي يميز في الغالب بين الكلمات، أو حتى الجمل ولا سيما في لغات لا تعالج خطيا الوحدات اللغوية معالجة تنسجم مع متطلبات التجزئة النحوية العلمية للكلمات والمركبات والجمل، وهذا شأن العربية المكتوبة في غير ما حالة.
في المعالجة الآلية للنصوص لا ينظر إلى المقاييس النحوية أو اللسانية في تحليل الوحدات اللغوية والتعرف عليها، مفصولة عن معطيات إحصائية من بينها رصد احتمالات ظهور الكلمات في جوارات مع كلمات أخرى، وهي التي سمتها المدرسة التوزيعية الأمريكية منذ قرن تقريبا بالتوزيعات التكاملية Complementary Distributions التي تدرس العناصر اللغوية التي تنتمي إلى باب واحد، اعتمادا على اختلاف توزعها توزعا جواريا مع غيرها.
حين يسطر الحاسوب كلمة بالأحمر فهذا يعني أنه يعدها خاطئة بمقاييسها التي برمج عليها، لكن لماذا نتهم الحاسوب وكثير من المدرسين يسطرون بالأحمر ما يعتقدون أنه خاطئ وهو صحيح؟ الذهن البشري في هذه الحالة يعمل بكفايات ناقصة لم يكملها، ولن تتم إلا حين تكتمل وكذلك الدماغ الآلي، لكن لا بد لنا من أن نميز بين نحو اللغات، التي يمكن أن تضمه كتب النحو، والنحو الصوري الذي يعتمد في برمجيات الحاسوب. في النحو الأول يمكن أن نتحدث عن قواعد إعرابية هي التي تتحكم في الدلالات التي في الجمل، لكن هذه القواعد تغيب في النحو الصوري المعتمد في الحواسيب. القواعد المهمة في هذا النحو هي قواعد «إعادة الكتابة»Rewrite Rules وهي قواعد تعمل بـأن يعوض رمز أو تعاد كتابته برموز أكثر أو أكبر تفصله. من ذلك أن (ج م.اس + م. فع.) تعني أن ج وهو رمز الجملة تعاد كتابته بجمع إسنادي بين مركب اسمي ومركب فعلي، مثلما هو الحال في مثال (أنَا أكتبُ).
التعرف على الكلمات والتعرف على المركبات، وتنميط محتويات الجملة، واستعمال المعطيات الدلالية بالنسبة إلى استعمال معين، هي جميعا مجالات النحو الصوري التي يستمدها من نحو اللغات الطبيعية كالإنكليزية والإسبانية والعربية وغيرها، وأن تصنع برمجيات تفهم اللغة الطبيعية وتعالجها بشكل يشبه فهم الذهن البشري لها هو تحد من التحديات الكبرى للمعالجة الآلية. حتى يشتغل الدماغ الإلكتروني اشتغالا جيدا مثلما يفعل الذهن البشري وهو يعالج اللغة، عليه أن يزود ببرمجيات مناسبة تستوعب تمثيلات هذه اللغة المعالجة آليا، استيعابا يكون صادقا مع صادقها وصادقا مع خاطئها. وما يحدث الآن هو أننا نجد أحيانا مشكلا في عمل النظام الاصطناعي، إذ يحكم على الصحيح باللحن وعلى اللاحن بالصحة، فعلى سبيل المثال لو شكلت (بالصحةُ) على هذا النحو لما اعتبرها الحاسوب لاحنة فالحركات في نظامه غير مفيدة، أيْ أن النظام الإعرابي برمته لا يراعى في معالجة العربية، رغم أن الإعراب سمتها الأساسية.
لا نستغرب هذا التهاون إن علمنا أن هناك من العرب الذين ينتسبون بالهوية والوظيفة إلى العربية، اعتبروا ومازالوا يعتبرون الإعراب شكلا من أشكال إثقال العربية على متعلميها؛ ويرون الحل في «تخفيف» العربية من الإعراب، وفي صنع عربية «لايت» (خفيفة) ككل شيء خفيف من سجائر ومشروبات. خطأ هذا التفكير مزدوج: أحدهما الجهل بأن الإعراب لا ينفصل عن الكلام، لأنه لا كلام بلا إعراب؛ والثاني أن ما يعد إعرابا ليس سمة للعربية، بل هو سمة لغات أخرى طبيعية لم ينادِ علماؤها بتهذيبها منها، لأنهم يعرفون أن من ينادي بذلك هو كحاطب ليل.
 
٭ أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية