الغد
أول مِن أمس، انسحبت قوات "السلطة الفلسطينية" من مخيم جنين ورفعت حصارها عنه، مفسحة المجال لقوات الكيان الصهيوني لتعمل هي ضد الفلسطينيين. وصرح مسؤول في "السلطة" بأن قواته انسحبت حتى لا تصطدم بجنود الكيان. وحسب المعروف عن "التنسيق الأمني" الذي وصفه رئيس السلطة بأنه مقدس، لا بد أن تكون اتصالات جرت بين الجانبين لتنسيق انسحاب قوات السلطة وقدوم الجيش لتحقيق ما أخفقت السلطة في تحقيقه.
لماذا تقبل السلطة الفلسطينية، على الرغم من انتفاء سبب وجودها ككيان انتقالي مؤقت إلى "الدولة"، بأن تبقى وتمارس الأدوار التي جعلتها بشعة في عين معظم الشعب الفلسطيني؟ يبدو أنها فقدت التمييز بين ما ينبغي أن تكون، كقيادة حركة تحرر وطنية، أو ثورة، وما أصبحت تحب أن تكون: "سلطة". وهي تحاول أن تجمع بين مفهومين متناقضين جدًا لأنهما يجسدان ديناميات متضاربة في جوهرهما، وأهدافهما، وطريقة عملهما ضمن السياقات السياسية، والاجتماعية، والفلسفية.
ينبغي أولًا تقدير أن الشعب الفلسطيني، الخاضع لاستعمار استيطاني إحلالي، هو في حالة ثورة. وهو لا يمكن أن ينطوي في تعريفاته الكيانية على أي شيء يسمى "سلطة"، بالمفهوم السياسي للكلمة. يمكن الحديث عن "سلطة" قائد فصيل على مقاتليه في المعركة، أو "سلطة" زعيم سياسي على حزبه في السياسة، لكن السلطة في هذه السياقات تنظيمية وهيكلية، ولا تبرر عرض الشعب الفلسطيني، الذي لا يمتلك سلطة على مصيره، من "رئيسه" إلى أصغر رضيع ولد الآن في الوطن أو المنفى. وفي الواقع، السلطة الوحيدة التي يمكن الحديث عنها في الأرض بين البحر والنهر هي سلطة الاستعمار، وأي بنى هيكلية تُسند إليها وظائف فرعية: سلطة الكهرباء، سلطة الطاقة، السلطة الفلسطينية... إلى آخره.
الثورة، بطبيعتها، حركة تسعى الثورة إلى قلب الأنظمة القائمة، والتصدي للهياكل الراسخة، وإحداث تغيير جذري. وهي لذلك عملية دينامية طبعها التحول وعدم الاستقرار. والسلطة، خصوصًا حين تترسخ في مؤسسات، تميل إلى مقاومة التغيير. إنها تسعى إلى الحفاظ على السيطرة، وتحب الاستقرار الذي تعتقد أنه يحمي المصالح القائمة؛ الوضع القائم. وبذلك، تكون بنيتها نفسها مصممة لصد محاولات التغيير الثوري. وهذه السكونية، بالتعريف، تدافع عن الوضع الراهن، الذي هو في السياق الاستعماري مريض وقاتل، حيث "الاستقرار" يعني الهزيمة أمام المشروع الاستعماري الزاحف والمتحرك بطبيعته.
الثورة تسعى إلى هدم السلطة، بينما تسعى السلطة إلى تأبيد نفسها –بما هي؛ بالشروط التي خلقتها وتبرر وجودها.
الثورة تسعى إلى التحرر، والمساواة، والعدالة، وتريد تقويض أنظمة القمع والظلم. والسلطة ليست مسعى وإنما هيكل يتطلب الحوكمة، وفرض النظام، وإنشاء آليات للسيطرة. وحيث تطورت الثورة إلى سلطة، غالبًا ما أعادت إنتاج الأنظمة التي كانت قد سعت إلى هدمها. وفي فلسطين، لم تقوض "السلطة" هيكل القمع الاستعماري لتعمل في الحوكمة وفرض النظام وآليات السيطرة. وبذلك، تُوظف أي آليات ترتبها "السلطة" لخدمة آليات السلطة الاستعمارية الأكبر، بالضرورة، حيث لا يُسمح بخلاف ذلك.
تعتمد الثورة على روح المقاومة، وتوحد الناس ضد قوى القمع، وتطالب بالمحاسبة والتغيير. وتعمل السلطة من خلال الهيمنة والسيطرة، وغالبًا ما تسعى إلى تهميش المقاومة والقضاء على التهديدات، بما في ذلك تلك التي تأتي بها القوى الثورية ذاتها. وفي السياق الفلسطيني، تصبح التهديدات التي تشكلها المقاومة على السلطة الاستعمارية، تهديدًا في الطريق لـ"السلطة" البلدية الفلسطينية. ولا بد أن ينشأ التوتر الحتمي مرة أخرى: الثورة التحررية تتحدى الهيمنة، لكن السلطة تتطلب غالبًا إعادة فرضها.
الثورة التحررية حركة تعتنق رؤى يوتوبية، وتضع الأيديولوجيا فوق الاعتبارات العملية المباشرة. والسلطة واقعية، مبنية على متطلبات الإدارة اليومية والمساومات السياسية، وتُقدّم الوظيفة على الأيديولوجيا. وهكذا، يتعارض الحماس المثالي للثورة مع الضرورات العملية للسلطة.
العلاقة بين الثورة والسلطة هي علاقة مشحونة، حيث الأولى هي القوة التي تقلب الثانية. ووفق أي منظور، لا يمكن أن تكون "السلطة"، اسمًا أو مفهومًا أو تكوينًا، موجودة في مفردات الحالة الفلسطينية في طور الصراع الثوري التحرري مع الاستعمار الاستيطاني الإبادي الإحلالي. وإذا جاءت في أي سياق، فإنها ستنطوي كل العيوب التي تعنيها مفهوم "السلطة" المتعارض حتماً مع الثورة. وكما تظهر حالة "السلطة الفلسطينية"، فإن وجودها، وممارستها، والدور الوظيفي التي يُسمح لها بالبقاء لأدائه وتُزال في لحظة إذا حادت عنه، هو شيء خارج عن السياق الطبيعي للعلاقة بين "الثورة" و"السلطة"، في السياقات الثورية التحررية.