عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    05-Dec-2019

في المقلب الآخر للحياة اليومية تنمو الصورة الفوتوغرافية* ميموزا العراوي

العرب -

لم يكن المصوّر الفوتوغرافي وصاحب “دار المصوّر” البيروتية، رمزي حيدر، يعلم بأن لبنان سينتفض ضد سلطة الفساد والطائفية في أواخر أشهر هذه السنة، عندما أعلن أن عنوان معرضه الذي سيحدث سنة 2020 سيكون “الذاكرة” داعيا المصوّرين لتقديم أعمالهم ضمن المعنى الواسع لمفهوم الذاكرة الثقافية الفردية والجماعية ليكشف في سردية المعرض مكامن الوعي الإنساني المنفتح على قبول الآخر واحترام التنوّع الثقافي.
وحين أعلن ذلك بناءً على المعرض الذي قدّمه هذه السنة تحت عنوان “الحرب الأهلية اللبنانية: من ذاكرة إلى ذاكرة”، لم يكن يدري بأنه سيؤسّس لمرحلة جديدة من التصوير الفوتوغرافي تستعرض معاني الألفة واللقاء، وستكون ولا شك في ذلك ناهضة من حملة تطهير عام لذاكرة الحرب اللبنانية التي نُبشت بكل ما فيها من قسوة ووضوح خلال الانتفاضة اللبنانية المستمرة إلى اليوم.
ويكاد المفكر الفرنسي جاد دريدا يختصر ما يعني هذا المسار التأريخي الفني للواقع، حين قال “إذا كانت الأشياء المتعلقة بالفن تنمو غالبا في المقلب الآخر للحياة، ذلك لأن ‘الصورة’ متفوّقة في قدرتها على تظهير فكرة النجاة التي لا تنتمي تماما إلى الحياة ولا إلى الموت، لا إلى الحاضر ولا إلى الماضي، بل إلى حيّز متناقض تناقض الأشباح التي تأبى إلاّ أن تحرّك ما في داخلنا من ذكريات”.
 
فما قدّمه رمزي حيدر في معرضين متتاليين وصولا إلى الذي سيقدّمه خلال سنة 2020 يلهج بهذه الرغبة الجامحة بتأطير الأحوال النفسية والثقافية على النحو الذي تكلم عنه دريدا، دون تجاهل لخطورة فعل النجاة من قلب مسيرة الواقع.
وتظهر هذه الخطورة في حقيقية وهشاشة الواقع المُشرق الذي يقدّمه اليوم المشهد اللبناني، إذ ليس من السهل أن تخرج الصورة من عتمة النسيان القامع، كما ليس من السهل خروج الطفل من رحم التكوين، فمكوثه حيّا في الأيام الأولى لولادته.
 
ومن المتوقع أن يكون معرض حيدر الجديد تحت عنوان “الذاكرة”، الباهر تصويبا لمعنى اللقاء مع الآخر بعد طول غياب. وسيكون نوعا من التكريس لهذا اللقاء وتحصينا له من هشاشة التحوّلات الجمة التي تحدث على الساحة.
وفي السياق نفسه، أقيم مؤخرا معرض للصور الفوتوغرافية قرب السينما القديمة أو مبنى البيضة أو الدوم في وسط بيروت، من تنظيم مديرة “مركز بيروت انتفاضة للتصوير” شانتال فهمي، ليكون دليلا قاطعا على بزوغ تلك المرحلة الانتقالية ما بين الحرب والسلم الحقيقي الذي ارتسمت ملامحه مؤخرا في الساحات اللبنانية كافة.
وسيكون هذا المعرض، على الأغلب مقدّمة مشهدية لما سيقدّمه رمزي حيدر في معرضه السنة القادمة التي ستحصد دون شك صورا تؤرّخ بداية التقارب الحقيقي بين اللبنانيين وقرار الشعب في أن يقول كلمته الأخيرة عن الحرب السابقة ورفضه لها رفضا قاطعا.
ولعل اختيار مكان العرض ضمن “انتفاضة للتصوير” جاء تأكيدا على ما قاله المفكر جاد دريدا، بأن “الأشياء المتعلقة بالفن تنمو غالبا في المقلب الآخر من الحياة”. مقلب، بالنسخة اللبنانية، جاء شديد المجاورة لموقع التحولات والمظاهرات والاعتصامات، أي في وسط بيروت وفي الباحة التي كانت موقفا للسيارات قبل انتفاضة 17 أكتوبر.
هناك على مقربة من ضجيج المظاهرات وأمام مبنى الدوم الذي لا يزال شاهدا على الحرب اللبنانية، إذ لم ينجَز بناؤه بسبب اندلاع الحرب، كما لما يُنجَز إنهاء الحرب فعليا بعد إنهائها رسميا، عُلّقت صور فوتوغرافية بالحجم الكبير توثّق أيام الثورة ولحظاتها المؤثرة في بيروت وطرابلس وجبل لبنان والنبطية وصور والبقاع. 
المار من أمام الصور قد يجد نفسه مُوثّقا في صورة من الصور المتنوعة والتي طالت معظم مشاهد الثورة من حرق للإطارات، وقبضات المتظاهرين المرفوعة والشموع المُضاءة، والورود التي قدّمت لأفراد الجيش اللبناني وصولا إلى مكافحي الشغب والأسلاك الشائكة والشبّيحة في فعل إرهابهم للمتظاهرين وقارعي الطبول وناصبي الأعلام اللبنانية والمرتدين للأقنعة والابتسامات وتعابير الوجوه الحزينة على السواء. ولفت في الصور إلى جانب فنيتها وتكثيفها للمعنى في بعضها حضور كل الأعمار، كذلك حضر وجه المرأة الريادي وليس فقط المشارك في الانتفاضة.
 
بوسع المار من أمام تلك الصور أن يعود ليشارك في المظاهرات في ثوان معدودة إلى قلب الحدث، إلى حيث صنعت ولا تزال تصنع الصور الفجة/ الواقعية التي ستجد لها مكانا ما في معرض لاحق.
شارك في هذا المعرض كل من المصوّرين: بدر الصفدي، إلياس مبارك، إميلي ماضي، حين بيضون، جاك صيقلي، جنى خوري، لارا تابت، ملاك مروة، مروان طحطح، عمر صفير ورودي بوشبل.
هكذا جمعت هذه الصور المُنتقاة بدراية المجد من أطرافه غير مراعية للتصنيف الذي أكد فيه يوما ما المفكر جاك رانسيير على وجود ثلاثة أنواع من الصور: الصورة التوثيقية التي لا تُظهر أكثر ممّا تقدّم، والصورة المُكثفة للمعنى، والصورة “المتحوّلة” القائمة على مبدأ المناقض للمكان والزمان والقابعة داخل العقل.