عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    02-Jun-2020

لحظة ميلاد سيدة الصحف! - أ.د. كميل موسى فرام

الراي - لاحتفال السنوي بعيد ميلاد شخص ما في العائلة والمجتمع، تقليد متوارث لأمنيات تتجدد بعام جديد مليء بالنجاحات والإنجازات، وهو حدث لا يحتاج لجرد حساب أو تحضيرات، فأغنيات التراث جاهزة بجميع اللغات ونفس اللحن والحماس، وتتفاوت الأمنيات بحجم الواقع، ولكن حالنا اليوم باحتفالنا مختلف تماما، حيث نحتفل بعيد ميلاد الأم الحاضنة «جريدة الرأي» ودخولها عامها الخمسين، الصحيفة التي احتضنت أقلامنا لإيصال رسالتنا، فكبرنا بها وأكبرتنا، حيث مارسنا أسس الحرية المسؤولة التي نسجت بحروف الوطنية، مشروع بنيان يمنحنا مكانة مستحقة لأنها جريدة الوطن، التي حملت عبر تاريخها رسالة تؤديها بأمانة بشعار لم يتبدل منذ زرع شتلها شهيد الوطن وصفي التل، وقد حافظ القائمون والمؤتمنون لادارتها على الأهداف الوطنية النبيلة التي وُلدت من رحم الحاجة والأحداث، فاستحقت المركز الأول دون منازع بالثقة والديمومة، لحرصها على نقل الخبر بأمانة، واحتضانها لفئة من كتاب الوطن الغيورين عليه ضمن تناقضات تنسج ديمقراطية حقيقية، فتعدد الآراء والاجتهدات يفتح باب النقاش المسؤول، تمهيدا لتوافق عنوانه «الوطن ومصلحة الوطن» أولوية غير قابلة للتفاوض، كما أنها كانت الأم التي حملت، وولدت، وأرضعت، وربت قامات إعلامية عبر مسيرتها وذات شأن بمسيرة البناء، فالثمرة المميزة لن تفرض طعمها بغير بيئة موقرة تحتضنها، ترويها، ترعاها، قبل أن تصبح منتجا يتمتع بالإستقلالية والحرية والتنقل لفرص اعتقاد أفضل، فللرأي الفضل بصعود السلم لموقع مستحق لقوم كبار بعد منحهم وسام شرف الكتابة على صفحاتها.

بدأت حكايتي مع الرأي منذ منتصف سبعينات القرن الماضي، بعد نشر تقرير صحفي لكاتبها الأستاذ عمر بدر عن الأديب الأردني المعتكف، إبن الحصن البار الأستاذ أديب عباسي، وبحكم الجيرة التي تجمعني مع الأديب كوننا نقطن بحارة واحدة «حارة المنشية»، ولوجود مكانة ذات صبغة أدبية في زاوية فكرية، وجدت نفسي ثائرا بالرد للدفاع عن أديب عباسي المظلوم ببعض الردود القاسية التي نُشرت، ووجدت أيضا من واجبي توضيحا لبعض النقاط لإزالة لبس حول حياة هذه الشخصية الخلافية، وبعثت مقالتي برسالة بريدية دون أن أخبر أحدا من العائلة، لأجد لاسمي بريقا يتصدر إحدى الصفحات التي خصصت للردود، يوم فرح يصعب وصفه، ولادة متجددة، ولكنه حفر بأيقونة الذاكرة، فاحتل مساحة من تضاريس الإنجازات الشخصية، منحتني الفخر وغذت روح الانتماء لصحيفة وطنية لم تتقاطع أولوياتها أو تراهن على مستقبل الوطن، وكانت البداية، لمزيد من الكتابات المسؤولة التي لا تتعارض مع خط المسير، ضمن حدود المعرفة والأداء. تبادلت معها غايتي بحس وإحساس، وشعور لا يترجم لنسج الكلمة من الحرف بقيمة المعنى، وعلامة ترقيم لبرهان التميز، حيث غرست محبتها بداخلنا بصورة عفوية، وثّقت تاريخ بناء الدولة الأردنية وعطاء رجالاتها، بنبض ملموس في حنايا الحب الذي يفيض، ليروي شتلات الأمل.
أصبحت مدمنا على قراءة الصحيفة، أوفر من مصروفي الشخصي اليومي والمخصص للمدرسة، مبلغ خمسة عشر فلسا ثمنا للصحيفة، أسعد فيها أساتذتي حيث يقرأونها يوميا، فارتفعت أسهمي بدرجة دلال إضافية تسمح ببعض الهفوات دون عقاب، واحتضنت اسمي بين أسطرها مرات ومرات، خصوصا بممارستي المشاغبة أحيانا والنابعة من وطنيتي التي تسكن داخلي وأرصف لها الحرية والاستقلال والتقدم، فقد غرستها بذرة ورويتها بدمي، حتى أصبحت مثمرة، تمنحني الثقة والعزيمة، في وطن يسكن معي واسكن بداخله، توأمان بالنجاح والمصير، وربما أفصح اليوم تعلقي بهذه الصحيفة بفضل صنع من مسيرتي أنموذج نجاح ومساق احتراف، عندما ألزمتني بقراءة قواعد اللغة العربية ونقشها في مساحة من الذاكرة، فعشقي للغة العربية ليس وليد صدفة، بل نتيجة طبيعية لترجمة موهبة وأمنية بأن أبدع بالكتابة، وبواحد من أساسياتها سلامة اللغة المستخدمة، فالمقالة التي تنشر بجريدة الرأي، لها موازين واعتبارات، وتقيم بمعيار الكبار، لأنها تجسد وتوثق حكاية نجاح لمسيرة وطن، بحبرها الغالي من عرق الكبار وفكرهم.
لم أنقطع بسنوات الدراسة الجامعية عن صحيفتي المفضلة «الرأي»، فكنت ضيفا اسبوعيا على السفارة الأردنية بالقاهرة التي تعهدت بتزويدي بأعداد الجريدة كاملة، فكتبت عبر صفحاتها معبرا عن ظروف الغربة والحنين للوطن والأهل، وعدت للوطن، فكتبت بتميز عن هموم أجيالي ومشاكل مجتمعي، خصوصا المجتمع الريفي باعتباري واحدا من ابناء الحصن الذين يفخرون بصدق انتمائهم، لتبدأ المرحلة الذهبية بعلاقتي في الرأي عن طريق ثلة من الأصدقاء التقيتها بطوارئ مستشفى الجامعة بصيف عام 1988 ،ليتجدد المشوار بحماس أكبر، حيث تجد مقالتي ترحيبا، تتصدر الصفحة بمكان مناسب، ثم ذهبت ببعثة دراسية لجامعة سيدني، كنت أتصفح الجريدة يوميا عبر محرك البحث «ياهو»، لتكون الجريدة ومبناها، المكان الأول الذي تشرفت بزيارته بعد عودتي، لأجدد العهد والمشوار منذ العام 1998 وحتى الساعة.
كغيري، ممن تشرف بالكتابة على صفحاتها، تمنحه جواز سفر لتسهيل المرور، فلها فضل على مسيرتي وإنجازاتي، فأسهمت بزيادة شعبيتي وأفق معارفي، خصوصا أنها منحنتني مساحة لترجمة ذاتي بدون تهذيب لغايات، فلم أتخصص بمجال كتابة واحد، كتخصص العمل، فكتبت في الصحة، والمجتمع، والثقافة، والأدب، والتربية، والسياسة، ترجمت فيها أفكاري الوطنية التي ساعدت بمضاعفة أسهم الشهرة، فزاد عبء الأمانة وقد أصبحت رقما صعبا بالرأي يصعب تجاوزه لاعتماده على رصيد وحصاد من تجارب الواقع، حيث احتضنت بإكرام لحلقة اسبوعية بتوثيق مسيرتي ومشواري في كلية الطب، من الابتدائية حتى الإستاذية، حيث أفرغت من صفحات الذاكرة، والوثائق المتوفرة، ما ساعد بإثراء المسيرة لتكون مرجعا للاستئناس لمن شاءت ظروفهم بأن تكون طموحاتهم، بدرجة أعلى من إمكاناتهم، فئة، أمام منعطف مصيري، الحفر بصخر الأيام، والزحف على سطح الأحلام، الرضا بالحرمان والسكن بمحطات التواضع، فالتنظير اللفظي من دير غبار وعبدون ليسمع أهل الحصن وإيدون، يحتاج لزغرودة حنجرية على أنغام «أبو راشيدة»، فالطريق للقمة ليست معبدة كشأن أصحاب الذوات، والمنافسة لا تخضع لمقاييس العدالة في غالبها، فهناك أولويات وإعادة ترتيب تمليها ظروف الحال، ولكن التصميم والتضحيات، قد مثلت الوقود الذي منحني مناعة ضد اليأس والفشل، وقصة ترقيتي للأستاذية بفصلها الأخير قد تصلح مساقا للبحث والامتثال.
جودة الأداء، هي مقياس التقويم، بما ينعكس على مسيرة الوطن وبنيانه، فأحرفها ومعانيها، تجيز نشرها أو تعديلها أو منعها، بدون المرور بمحطات الأفراد وأهوائهم إن كانت الفكرة وطنية، واقع ساعد برفع روح الأداء لدفع عجلة البناء بتضحيات غير متناهية، فنحن السند ونرصف الأجسام للدفاع لأي اعتداء وعارض، لأنها الرأي التي احتضنت طفولتنا البريئة عندما قرعنا جرس الانتماء للسلطة الرابعة، فكبرنا بأحضانها رجال دولة ووطنية ذات شأن، فالمستقبل واعد ونسير، فلنا الفخر أن نشارك احتفال الرأي بعيدها التاسع والأربعين، فإضاءة شمعة جديدة تفوق لعنة الظلام الذي يحاول البعض تسويقه لإعاقة المسيرة.. وللحديث بقية.