الغد-عزيزة علي
الزرقاء - تناول الدكتور زياد أبو لبن تجربة الأديب العالمي نجيب محفوظ، رائد الرواية العربية، وذلك في الندوة التي نظمتها رابطة الكتاب الأردنيين/ فرع الزرقاء، بعنوان "نجيب محفوظ بين الشك واليقين"، وأدارها الدكتور محمد السماعة. حيث سلط الضوء على مسيرته الإبداعية وفلسفته الإنسانية العميقة.
واستعرض أبو لبن كيف تحول الأدب عند محفوظ من مرآة للواقع إلى فضاء رمزي وفلسفي يعكس حيرة الإنسان أمام الوجود والعدل والإيمان، مع التركيز على روايته الشهيرة "أولاد حارتنا"، التي شكلت منعطفا في الأدب العربي وفتحت آفاقا جديدة للفكر والخيال.
قال أبو لبن "إن محفوظ رحل العام 2006 بعد عمرٍ حافل امتد أربعةً وتسعين عامًا، ترك خلاله نهر الأدب العربي متفرعًا في مئات المسارات، مبينا أنه كان منظما بدقة مدهشة في وقته وقراءاته وطقوس كتابته، يكتب ويقرأ في ساعات محددة كأنه ينسق نوتة لحياته اليومية. غير أن هذا النظام لم يقيد خياله، بل جعل من انضباطه بوابةً لتدفق الإبداع".
وأضاف لقد عرفت محفوظ في العام 1987، استقبلني بابتسامته الهادئة، ودعاني إلى مكتبه في الأهرام، حيث أجريت معه أول حوار نشر في الدستور الأردنية العام 1990. كانت لقاءاتنا قصيرة لكنها غنية، ورأيته غير مرة يسير على قدميه نحو الأهرام. وبعد فوزه بنوبل، بدا في الميدان محاطًا بالمهئين، يبتسم كأبٍ للجميع. ضاعت صوري معه، لكن بقيت الذكرى في القلب.
وأشار الى أن محفوظ لم يكتب سيرته الذاتية كما يفعل كثير من الكتاب الكبار، رغم أنه حاول مرتين. فقد دون كراسة بعنوان "الأعوام" على غرار الأيام لطه حسين، وأخرى ضمنها تأملاته في الوجود والخالق والحياة، لكنه مزقهما بيديه قائلا "كنت أريد أن يرى القارئ مني ما أختار أن أقول له أنا".
ولفت أبو لبن إلى أن محفوظ كان يدرك أن السيرة الذاتية ليست اعترافًا شخصيًا بقدر ما هي كشف لأسرار الآخرين أيضًا، ولذلك قال "الناس لا تحب أن يُكشف سترها، والسيرة الذاتية قد تفضح أقاربك وجيرانك دون إذنهم، وفي بيئتنا لا يُقبل ذلك".
كانت بدايات محفوظ في الكتابة، بمحاولة روائية "أحلام القرية"، وصفها لاحقًا بأنها "مضحكة"، لأنه كتب عن بيئة لم يعشها. ثم ألّف "الأعوام"، "الحسرات"، متأثرًا بأسلوبي طه حسين والمنفلوطي، وكان ينسخ القصص البوليسية التي يقرأها ويعيد صياغتها بطريقته.
أما عن شغفه بالتاريخ، فرأى أبو لبن أنه انعكس في ثلاثيته الفرعونية: "عبث الأقدار"، "رادوبيس"، "كفاح طيبة"، وقال عنها مازحًا "كنت متشبّعًا بأساليب فخمة جزلة لا تناسب طبيعة الموضوع، فكان بين اللغة والمضمون التنافر".
وأشار إلى أن محفوظ بدأ قراءاته بالروايات البوليسية المترجمة، ثم انفتح على الأدب العالمي فقرأ شكسبير وتولستوي وفيكتور هوغو وغوته، وقرأ الأدب العربي الكلاسيكي من "البيان والتبيين"، إلى "العقد الفريد"، وتابع نتاج الأدباء المعاصرين مثل، العقاد وطه حسين وتوفيق الحكيم وسلامة موسى، وقرأ شعراء الحداثة من بدر شاكر السيّاب إلى أمل دنقل.
ويذكر أبو لبن أقوال محفوظ منها، "كل كتاب أقرؤه يفتح عيني على كتبٍ أخرى، فأشعر أن الجهل يطاردني". ورغم ولعه بالأدب، كان يميل إلى القراءة في العلوم، فكان يرى في العلم ذروة الدهشة، قائلا "العلم هو أعظم ما وصل إليه الإنسان، وأي بصيرة أعمق من رحلة القمر؟".
وأوضح أبو لبن أن محفوظ خاض تجربة روحية وفكرية عميقة يقول عن تلك المرحلة "أردت أن أخضع يقيني الديني للعقل، ففشلت. حتى قرأت القرآن جيداً، فعرفت أن القلب هو طريق المعرفة في الغيبيات"، كانت سنوات الشك لديه هي مرحلة تطهيرٍ فكري انتهت بيقينٍ قلبي لا عقلي، تجلى في روايتيه "الطريق"، "الشحاذ"، حيث يسعى الإنسان نحو المطلق لا بالعقل بل بالإحساس.
ورأى أن رواية "أولاد حارتنا"، كانت ذروة هذا الصراع الوجودي والفلسفي، تجاوز فيها محفوظ حدود الحارة الواقعية إلى فضاء رمزي واسع، مزج فيه الأسطورة بالدين والتاريخ الإنساني في بناءٍ فني فريد. تحوّلت الحارة إلى كونٍ مصغّرٍ للوجود البشري، يضجّ بالتجريب والتمرد والبحث عن العدل والمعرفة، في إعادة رمزية لمسيرة الإنسان منذ الخلق حتى الحاضر.
وعندما نُشرت الرواية مسلسلة في الأهرام العام 1959، أحدثت عاصفة فكرية غير مسبوقة؛ إذ رآها البعض مساسًا بالمقدسات، بينما اعتبرها آخرون صرخةً فلسفية في وجه الظلم والتسلّط الإنساني.
ورأى أبو لبن، أن محفوظ دفع الثمن باهظًا؛ إذ ظلّت الفتوى تطارده حتى محاولة اغتياله العام 1994، حين طعنه أحد المتطرفين بدافع ديني زائف، وبقي محفوظ متمسكًا بابتسامته، قائلاً لمن سأله عن الجرح "أنا بخير... لقد عفوتُ منذ اللحظة الأولى".
بهذه الرواية، قدم محفوظ وصيته الفكرية الكبرى: أن الأدب لا يكون أدبًا إلا إذا كشف المسكوت عنه فينا، وحثّنا على أن نرى الله والإنسان والحياة بعينٍ أعمق وواعية ورحيمة.
البنية الرمزية في "أولاد حارتنا،" لم تكن مجرد إسقاط ديني أو فلسفي، بل قراءة جديدة لمسار الحضارة الإنسانية وعلاقتها بالسلطة والمعرفة والإيمان. أراد محفوظ أن يبين أن الإنسان لم يكف يومًا عن السعي نحو النور، وبحث عن الإنسان في ذاته.
وأثرت هذه الرمزية في مسار الأدب العربي لاحقًا، فانتقل من الواقعية التسجيلية إلى الواقعية الرمزية والفلسفية، حيث صار المكان رمزًا للعالم بأسره، والشخصيات رموزًا للقدر والمصير والأمل.
ورغم طابعه الفلسفي، تبقى الرواية في جوهرها إنسانية مفعمة بالعاطفة والأسى؛ فكل ابن من أبناء الحارة يحمل جرح الإنسان الأزلي: حنينه إلى العدالة، خوفه من الفناء، ورغبته في أن يُفهم من خالقه قبل أن يُدان.
وتركت رمزية "أولاد حارتنا"، أثرًا بالغًا على الأدب العربي، وجعلت من محفوظ منعطفًا رئيسيًا في الرواية العربية، حيث لم يعد الأدب مجرد مرآة للواقع، بل صار مرآة للغيب والضمير معًا.