عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    07-Dec-2018

جهاد أبو حشيش في روايته الجديدة عوالم متشابكة لرصد الواقع بلغة سردية مشهدية
الدستور - 
ثمّة قضية مفصلية تنبثق من زاوية محددة لا غير، لتتوالد قضايا أخرى لا تقل فجيعتها عن الأولى، كالثأر الذي تكون نتيجته الحتمية مكانة المرأة في مجتمع ما، وبالتالي السلطة الذكورية. والحرب على سبيل المثال، هي مجازر وسفك دماء، لكن في المقابل ثروة لمن يفهمها جيدًا، وإذا بحثنا عن البؤرة الإرتكازية للقضايا السابقة بأكملها، نكتشف أن الزاوية المحددة هي الصراع، فانبعاثاته تنصب في نقطة كونية، هي الوجود.
في روايته (ذئب الله) التي صدرت عن دار فضاءات للنشر والتوزيع، -نتحفظ على العنوان لأسباب كثيرة- تجتمع جُلّ القضايا، لينسج الروائي جهاد أبو حشيش بلغته السردية المتقنة واقعًا مهزومًا حتى العمق. (عواد الباز) الشخصية المسحوقة المنكسرة منذ ولادته، فوجوده على قيد الحياة ردًا على ثأر كان يمكن أن يدفع ثمنه  لولا جدته (عصرية) التي وجدت فيه بديلًا عن ابنها الذي قُتل على يد قبيلة، ولم يكن أمامها سوى أن تُزوج ابنها الأكبر (صخر) من إحدى فتياتها  لتنجب لها بدلًا عن ولدها الذي فقدته (عواد)، ليحمل الاسم نفسه، ولم تكن أمّه قادرة على احتضانه أو تقبيله، فهي (الذّلول) التي دفعت ثمن الثأر مرتين، تزويجها من أخ القتيل (صخر)، وموتها على يد ابنها (عواد) الذي كان يستعرض  البندقية التي بحوزته بعد أن التحق مع الفدائيين، ليس انتماءً، لكنها الغيرة التي تعتصر قلبه من أخيه (سيف) ابن (وطفا) الزوجة الأولى لصخر. تقول (الذّلول – أمّ عواد الباز):» المرأة مهما زينوها، ذلول، لإخوتها حتى يصيروا رجالًا بين الناس، ويعلو صيتهم، وللرجل الذي ينام في فراشها، عندما لا يرى فيها أكثر من حاجة، مثل صحن الطبيخ يقلبه بعد أن يفرغ منه، وللناس مثل أي ناقة يعطونها لبعضهم  سداد دين أو دم، أنا هذه المرأة التي تسمونها الذلول..» ص38.
هو عالم البداوة؛ الثأرات، وأسماء بدوية؛ (عصرية)، و(الذّلول)، و(عواد الباز)، و(صخر)، هذا العالم الذي لن يوقفه شيء لتحقيق المراد؛ الثروة، والنساء، يبحثون عن الكلأ والنار، ولا يتوانون عن اغتصاب الضعيف، وسحق النساء، والذكر الذي يجب أن يحتفى به أينما كان، العالم الذي يستدرجنا إليه الراوي، لنتعرف على حياة (عواد الباز) منذ أنّ كان جنينًا في بطن أمّه (عائشة).
 
 عواد.. طريق النضال الذي غدا تاجر سلاح
يؤثث جهاد أبو حشيش الحكايات، ويتجول بنا في المقاطع السردية حينًا، وتعدد الأصوات، لا سيما النساء حينًا آخر، متناولًا علاقاتها مع الركيزة البنيوية (عواد الباز) الذي سيكون الشرارة الأولى لكل ما يدور من أحداث لا تنتهي إلا بقطع نسله (عادل) الذي فقد رجولته جراء ما اقترفت يدا والده. ومع ذلك تبقى قضية (عواد) فرعية أمام المفصل الحقيقي: « كل ما نراه ونسمع عنه محض كذبة كبيرة، فلا اليهود ولا أوروربا ولا أمريكا من يتحكم بهذا العالم، شركات الاسلحة ومن خلفها هم الحاكم الحقيقي لهذا العالم.» ص15، وأبو ناصر عندما يقول: «ليست هي المشكلة، كل صراع في الكون هو صراع على السلطة..» ص57. ولو اتخذ أبو حشيش هذه الجزئية  بعيدًا عن القضايا الأخرى لبرز  العمل أكثر اختزالًا وعمقًا، لا سيما أنّه تطرق إلى مرحلتين، الأولى لها خصوصية لا يدركها الكثيرون،  وهي حرب 1970، و(كيفية الطرق في بيع الأسلحة في ظل الحروب القائمة) الذي يجهله معظمنا.
اكتنز العمل الروائي جراء القضايا المتشابكة الكثير من الرؤى؛ (عوالم السلاح) الذي عرف عواد مكانته الحقيقية منذ كان طفلًا، فقد ارتدى البذلة الفدائية والبسطار الفرنسي أسوة بأخيه (سيف)، ليتمخطر بها أمام صبايا القرية، والأرملة (مليحة الأحمد) التي فقدت زوجها (عليان) ثأرًا، وعرضوا عليها الزواج من (عواد– الأب)، لكنها ترفض، وسرعان ما تلاحق (عواد – الحفيد) الذي سرق ديكها:»تفوووو، أكثر من هالخراب ما في خراب، يا حسرتي على بلاد ترمي حملها على كتاف حراميها..» ص27. لكن (عواد) الذي ينتشي بالبذلة يكتشف حقيقة مُرة، لتكون صدمته الثانية بعد قتل أمّه:» كانت مجزرة اختلط فيها الدم بشهقات الليل، لو أنكم رأيتم  وجوه الرجال وهي ترتدي خيباتها، آه ما أقسى أن يخذلك من سلمتهم حياتك، خليط من الإحساس بالخذلان والقهر تنقع قلبك فيه، لحظة لا يعود لك حتى خيار المواجهة، فما انت إلا فريسة تمّ اقتيادها غافلة إلى حظيرة النهاية، آآه يا القهر، مثلما يذوب الملح  ذاب الحاج كاديلاك، خنزير الشيب..» ص50.
من هنا، تبدأ رحلة (عواد الباز) عندما يقبع في السجن ليتعرف على تاجر السلاح (أبو ناصر)، ليقرر بعدها أنّ يختار طريقًا لا مفر  منه، ذاك الطريق الذي يجعله من رؤوس الأموال في قريته (خربا)، و(عمان)، و(بيروت): « المهربون تجار السلاح، هؤلاء هم أسياد السجن، رجال لا يخافون شيئًا، يفتل الواحد منهم شواربه فيقيد بها الحديد، هؤلاء هم من يمتلكون المال والقرار في السجن، ويمتلكون الرجال أيضًا، داخله وخارجه، إنهم يتحكمون في المصائر كلّها، هكذا هي الحياة من يمتلك المال يمتلك القوة..» ص52. ولا يتردد في تمويل أي جهة مقابل الدولارات التي تجعله في كل صفقة رابحًا لا غبار عليه، إلى أنّ تأتي الصفقة التي كانت سببًا في القضاء على نسله، وهي تفجيرات عمان التي كانت سببًا في فقد ابنه خصيتيه.
 
 الثالوث المتأرجح في بنيوية الأحداث
لم يكن أبو حشيش قادرًا على تناول السياسة ودهاليزها  دون أن يكون للدين دورٌ في الأحداث، والذي بدوره يُشكل مع الجنس الثالوث المتعارف عليه. (عواد الباز) النموذج الذي أراد الروائي أن ينقل لنا الحالة التي تعيشها الأمّة العربية،  فهو الغارق في الثالوث بلا هوادة، بدءًا من انقياده للنساء دون أي جهد للتمنع، حتى اليهودية (تاليا) التي لا تفهم سرّ الصراع بين الفلسطينيين و(الاسرائيليين):» فقد كانت الحرب بين الاسرائيليين والفلسطينيين مستنقعًا من الكراهية لا يحتمل التفكير مرتين، طرفان غبيان لا يريان من الحياة سوى الموت.»ص12، مرورًا ببيع السلاح لأجل الدولارات:»البساتين هذه الكائنات العشبية المستسلمة، تحترف الصمت منذ ولادتها لو هُيِئ لها لقالت الكثير لكن خرسها لا نهائي، هي للعابر فيها، لذلك نشأت علاقة ودية بينهما، فهي ماهرة في إخفاء كل ما تريد إخفاءه، كثيرًا ما خبأته عن عيون الفلاحين والفلاحات وهو يطارد إحدى طرائده، أو يخفي في بطنها بعض ما يرسله أبو ناصر في أشولة السماد حتى يمرّ زبائنه ليلًا فيأخذونه بصمت ويمضون، الحديد يدر الكثير من المال أكثر بكثير من الخضار..» ص89، وانتهاءً بمأساته.
حاول الروائي جهاد أبو حشيش أن يلتقط  قضايا عدة بلغة مشهدية متباينة، لطرح فكرته السياسية التي جاءت سوداوية بقدر كبير المتمثلة بجشع (الباز) في كل ما يملكه، لكن في المقابل، كان هناك بعض الضوء الذي تمثل في (سارةالعمار) التي فقدت زوجها الشهيد في معركة الكرامة: «الحرة مثل أرض الوقف لا تستطيع أن تكون إلا لرجل واحد، حتى ولو مات، الحرة لا تترك أرضها لكل من هبّودبّ ليفلحها.. رديات النفس مثل مزبلة البلد.. يا حيف» ص91، والأرملة (مليحة الأحمد) على نهجهما النضالي، والوقوف ضد (الباز) وكل من يحاول اغتصاب حقهما في الحياة. و(أبو فتحي) الذي اضطر للهروب إلى دمشق، والذي ربما قُتل أثناء خروجه.
وللنساء حضور مكثف في الرواية، فهن مكملات لـ (عواد الباز) في كل مرحلة عاشها، من (مليحة)، وجدته (عصرية)، و(الذّلول – أمَه السبب في وجوده)، و(نادرة – أم فراس) التي جاءت نقيض (سارة العمار)، و(منال- شهوة الحياة)، و(عائشة – زوجته –  الناحية الدينية). أما اليهودية (تاليا) فقد كانت الطرف الأهم في حياته السياسية، والتي كانت سببًا في إغراقه بعالم لم يكن ينتظره، كما أن الروائي أسهب في تجسيد العلاقات الجنسية التي كان بالإمكان أنّ يتغاضى عنها في بعض المقاطع.
على الرغم من أنّ الروائي أراد أن يكشف عن الصراع السياسي بين الفلسطينيين و(الاسرائيليين) إلا أن طريقة الطرح كانت صادمة، لا سيما عندما أزاحت (تاليا) (عواد) عن السرير بقدميها، ليُطلق الحقيقة المؤلمة الدموية: «الآن عرفت كيف تمكن أجدادك من عبور صخور أجدادي!» ص158.
وهنا نتساءل: وماذا عن الانتفاضات الفلسطينية التي لا تزال مستمرة على الرغم من  خيانات القيادة؟ فما زال هناك (سيف) الوجه الحقيقي للنضال، حتى بعد تعرضه للتنكيل والتعذيب أمام النموذج  الأسوأ وهو (الباز).