الغد
اليوم تتقاطع في المنطقة العربية إرادات القوى الدولية والإقليمية لتنتج تفاعلاتها ميزان قوى يفرض واقعًا مريعًا على العرب؛ تميل فيه الكفة لصالح الأعداء والمنافسين، ويتكرس فيه مشروع الهيمنة على الإقليم ممثلًا بالكيان الصهيوني المعروف أنه لا يصمد بإمكانياته الخاصة.
سوف يستفيد هذا "النظام" من ضعف عربي هيكلي فرضته حالة التجزئة السياسية وغياب الرؤية الموحدة. وكما أظهرت عقود من التجربة منذ "سايكس-بيكو" نجاح ذلك المخطط، حيث لم تتمكن أيّ من "القوميات" القُطرية منفردة من تشكيل كيان آمن ومستقل بمعنى إدامة نفسه والسيطرة على مصيره.
في هذا الوضع الذي يبدو بلا أفق، وعلى الرغم من كل العمل على تشويه المفهوم، تطرح "القومية المستقلة" نفسها كخيار منطقي لاستعادة زمام المبادرة -ليس كحنين إلى الماضي، ولا كمجرد خطاب نظري، بل كضرورة عملية استراتيجية تفرضها حقائق الواقع وتوازناته القاسية.
لا تعني القومية المستقلة الانغلاق، ولا تكرار محاولات الوحدة التقليدية التي سقطت في فخ الأيديولوجيا من دون امتلاك أدوات القوة. إنها مشروع تحرري غايته إعادة تشكيل الهوية العربية على أسس واقعية تجمع بين المصالح الوطنية للدول القُطرية والالتزامات القومية المشتركة. والغاية؟ التحرر من التبعية المُقعِدة للنفوذ الخارجي، وبناء القدرات الذاتية في المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية.
وليست هذه القومية دعوة إلى إعادة إنتاج مركزية تقليدية على غرار التجارب السابقة، وإنما تصور يهدف إلى التغلب على الهشاشة التي أنتجها نموذج الدول القطرية التي يفرض وضعها رهن قرارها واستقرارها بقوى خارجية. والطريقة هي البناء على المشتركات لتأسيس كيان عربي متماسك مؤهل لطرح نفسه كفاعل مستقل معتمد على ذاته ومؤثر في معادلات الهيمنة الدولية.
يستنطق مفهوم "القومية المستقلة" مفهوم "الاستقلال" بمدلولاته السائدة في الوطن العربي. ويتصوَّر المشروع أن الاستقلال الحقيقي يتحقق فقط في امتلاك القرار السيادي والإرادة الحرة بأقل قدر من التأثر بإرادة الغير، قادر على بناء نموذج تنموي وسياسي يخدم مصالح –وينسجم مع إرادة- الأغلبية وليس النخب. وإذا كان هذا التصور معقولًا، فإن القومية المستقلة ينبغي أن تتأسس على محاور أساسية.
أولًا، استعادة مفهوم السيادة الفعلية بعد الاعتراف بأن الوضع الراهن لا يكفل السيادة الحقيقية لأي كيان عربي منفرد. وبهذا المعنى، سوف يتجاوز مفهوم السيادة الشكل القانوني للاستقلال إلى تحقيق داخل محصّن ضد أدوات الاختراق الخارجي؛ الاقتصادية، والسياسية، والعسكرية. ويتحقق ذلك بتقليص الاعتماد على المؤسسات المالية الدولية التي تستخدم كأدوات ضغط، عن طريق ابتكار تكامل اقتصادي عربي يمكّن الدول من بناء قاعدة إنتاجية مستقلة بديلة عن التبعية للأسواق الغربية. طالما ظلت الدول العربية أسيرة التبادل الاقتصادي غير المتكافئ مع الغرب، سيظل قرارها السياسي مرهونًا لابتزاز قوى الغرب.
عسكريًا، يتصور مشروع القومية المستقلة بناء قوة رادعة قادرة على كبح العدوان والتدخل الخارجي ودفع الآخرين إلى التفكير مرتين قبل استهداف أي مكان عربي. ومن الواضح أن دولة تعتمد في أمنها القومي على حماية قوة أجنبية لا تخفي رغبتها في الهيمنة لا تملك مستقبلًا مستقلًا. لا بديل لتحقيق السيادة المستقلة عن تطوير الصناعات العسكرية الوطنية، وتعزيز التحالفات الدفاعية بين الدول العربية، والتحرر من الاعتماد على التسليح الأجنبي المقنّن، والمكلف والمشروط، كركائز ضرورية لتأسيس بنية دفاعية عربية مستقلة. لا يمكن الحديث عن قومية مستقلة عندما يفتقر العرب إلى أدوات قوة تحبط التدخلات الخارجية، وتنتقل بالخطاب من الاحتجاج إلى التهديد، كما تفعل الكيان المؤثرة. لا قيمة عملية في زمن معادلات القوة لمفردات القلق والاستنكار والإدانة عندما تكون سقف الخطاب وأرضيته.
سياسيًا، يتطلب المشروع تغيير مفهوم الدولة العربية من كيان مغلق على ذاته إلى وحدة وظيفية تترابط وتتكامل مع محيطها القومي، عمليًا وليس خطابيًا. ويتأسس التفاعل على المصالح المحسوسة المشتركة التي تصنع روابط غير قابلة للفصم. لن تستطيع أي دولة عربية أن تواجه وحدها المشاريع الإقليمية المناوئة والمنافسة، سواء كان ذلك المشروع الصهيوني العدواني والتوسعي، أو المشاريع المنافسة على سيادة الإقليم، مثل إيران وتركيا. سوف يُسهل الاستمرار في التعامل مع هذه التحديات بمنطق التجزئة القطري على القوى الأخرى توظيف كل دولة ضد الأخرى، أو حتى الفئات في داخل الدول، في لعبة محاور تكرس الضعف العرب أقطارًا وأمة بدلًا من توحيد القوة في اتجاه تحقيق السيادة.
في مواجهة مشروع الهيمنة الغربي الذي يستخدم الكيان الصهيوني كقاعدة متقدمة للإخضاع في المنطقة، لم تعد الدبلوماسية التقليدية بديلًا يمكن الدفاع عنه. يجب بوضوح صنع واقع جديد يفرض حسابات مختلفة على هذه الأطراف. سوف يعني استمرار الوضع القائم حيث الكيان هو الطرف الوحيد الذي يملك استراتيجية للسيطرة، في مقابل ردود فعل عربية غير مؤثرة، بقاء العرب على الجانب السلبي المتلقّي من التاريخ. وكما يؤكد التاريخ –برغم كل محاولات إثبات خلاف ذلك- فإن القضية الفلسطينية هي حصان طروادة للسيطرة على الإقليم العربي. ولذلك، لا ينبغي إدارة الوجه عن مركزية هذه القضية وادعاء إمكانية تحرير الإقليم من دونها، ويجب استعادة مركزيتها كمتطلب مسبق أساسي للتحرر العربي.
بطبيعة الحال، لا يقل الجانب الثقافي والفكري لهذا المشروع أهمية عن الجوانب السياسية والاقتصادية والعسكرية. لا يمكن تحقيق القومية المستقلة من دون استعادة العقل العربي من قبضة التبعية الثقافية التي كرستها عقود من التغريب. وقد تم توظيف الإعلام والتعليم لإنتاج أجيال ترى نفسها جزءًا من مشاريع خارجية غريبة بدلًا من أن تكون امتدادًا لحضارة عربية مستقلة. ولذلك لا بد من العمل على مشروع فكري عربي مستقل عن النماذج الاستعمارية، يؤسس لنموذج يبني على الخصوصية العربية وليس الاستنساخ المشوه لتجارب الآخرين. ومثل الاستقلال السياسي والاقتصادي، سيشكل التحرر الفكري والثقافي ضمانة لعقلنة هذا الاستقلال. لن ينجح أي مشروع سياسي إذا كان العقل الذي يديره مستلبًا ومأسورًا لخطابات مصممة لإحباط هذا العقل وتحديد مجالاته.
ليست القومية المستقلة بهذه المعاني حلمًا يوتوبيًا، ولا ينبغي التحريض على اعتبارها غير ممكنة. إنها الإمكانية الواقعية الوحيدة لمواجهة ما يتعرض له العالم العربي من استهداف ممنهج لتفكيكه وإبقائه في حالة الضعف والتبعية. ولمن يصرون على ما يعتبرونه خصوصيات الأقطار "الأمم"، لا تتطلب هذه الفكرة بالضرورة تفكيك الكيانات القطرية. سوف يساعد هذا المشروع تجاوز مأزق القُطرية المغلقة التي أضعفت كل قطر وسجنته في "خصوصيته" بالتكامل.
إننا نعيش في عالم تديره التكتلات الكبرى ولا يقيم وزنًا للكيانات الصغيرة التي يحتم عليها صغر جرمها الدوران في مجال جاذبية قطب كبير والتمسح به. لن يجلب استمرار التبعية السياسية والعسكرية والاقتصادية التي يحتمها الانفصال سوى ضمان بقاء الجميع هدفًا للتدجين والاستغلال. ليس خيار العرب اليوم بين الوحدة أو استمرار الوضع الراهن؛ إنه إما الاستقلال الحقيقي وتحرير القرار، أو عيشهم –شعوبًا وأفرادًا- بشخصيات مأزومة مهزومة وهويات مشوهة.