عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    03-Aug-2020

ناجي العلي ما لا يفنى في الذي يموت - قاسم حداد

 

القدس العربي - إذا كان ثمة مناسبة للكتابة عن الفنان ناجي العلي، فلتكن فلسطين، هذه التي لا تحتاج هي الأخرى للكلام عنها. ففي خضم الانجراف، الذي يحرج أصحابه، نحو المحو الدولي الممنهج لمكانة القضية الفلسطينية في خريطة المشاغل الإنسانية العالمية، وتحولاتها في استراتيجيات النظام العربي، أشعر بأن الكلام عن فلسطين، واستعادته في الضمير العربي، يظل حاجة نفسية، من شأنها إتاحة الوقت والحق في طرح الرؤية الحرة، في شأنٍ كان من مكونات الدرس الأول في تجربة أكثر من أربعة أجيال عربية، سياسياً ونضالياً.
 
2
 
الفنان الذي جعلَ للصمت الفلسطيني القسري صوتاً، وأي صوت. يحق لي القول إنه كان، خصوصاً، صوت الصمت العربي، وينبغي لنا استعادته الآن جرساً يوقظ الذكرى، في خريطة تشرف على الفناء. في هذا الشكل، نستطيع أن نتعرف على تجربة فن الكاريكاتير/ البوصلة، عندما تكون رؤيته واضحة وغير محايدة، في ما هو ينجو بِنَا من مغبة السهو والنسيان. (إذا حاولت رسم شجرة في عاصفة، ربما تفشل، لكنك قد ترسم غابة تخرج من سرير مشبوق تحت المطر. جرّب أن تفعل ذلك). في الحب ليس ثمة حياد. حب الوطن خصوصاً، يظل بلا وسائط ولا مراوغات. عندما كان ناجي العلي يجهر برأيه في تفاصيل المأساة الفلسطينية، كان يختزل ويتجاوز الآلة العاجزة للإعلام العربي كافة. وكلما توغل ناجي برسوماته في الحياة الفلسطينية، يكون قد اقتربَ من تلافيف الواقع العربي، لذلك سيكون من القصور، جهلاً أو قصداً، النظر إلى تجربة ناجي العلي بوصفها شأناً فلسطينياً فقط، لأن في هذه النظرة مصادرة خطيرة لدلالات الصوت الذي تصدر عنه تجربة هذا الفنان الكونيّ الفذّ.
 
3
 
حين أذكر ناجي العلي، سأتذكر كلمة قالها الشاعر محمود درويش، عن جهورية صوت الشاعر العراقي مظفر النواب، (بأنه الشاعر الذي يقول ما لا نقوله).
ففي فن التعبير طبقات، ليس في المعنى فحسب، ولكن في شكل القول أيضاً.
ربما سيطلق درويش التقدير نفسه عن ناجي العلي، وهذا ما يدعوني إلى الإشارة، ليست قليلة الثقة، عن الجوهر الشعري في أعمال ناجي العلي. فعندي، أن شعرية العمل الفني، أياً كان نوعه، سوف تصدر عن تلك الموهبة المقرونة بالمعرفة العميقتين الصادقتين. وهو ما يحتاج منا تأملاً مستمراً في تجربة ناجي العلي، والعمل على اكتشاف تلك الروح الإنسانية العميقة، صارمة الجَرح والتعديل في الحياة العربية، التي كان ناجي العلي يرى سلطاتها وهي تتدهور، متخذةً الماضي أمثولة لها، تمعن في تفادي المستقبل محاولة التفلّت منه، وهي تحكم قبضتها على رقاب المخلوقات الذبيحة، واضعة نفسها في موقع فرض الخيارات، ليس في القضية الفلسطينية وحسب، بل في عموم الحياة العربية.
 
4
 
ثمة قضايا عديدة يمكن أن تشكل محاور تجربة ناجي العلي فناً وفكراً، غير أن ما يجمع تلك المحاور هو السعي، شديد الوعي، لصقل الضمير العربي وتدريبه على فنّ مجابهة صناعة الديكتاتور، وحماية المستقبل العربي من كواسر الغابة العالمية. ذلك هو، كما أرى، الجوهر الإنساني الذي يسعفنا من أجل وضع فنّ الكاريكاتير، الذي اجترحه ناجي العلي بموهبة الجراح، واقترحه على التجربة الفنية العربية، ليكون جوهرةَ المراصد في النضال الثوري.
 
5
 
النضال.. هذا هو المنعطف الجوهري الذي تضعنا تجربة ناجي العلي على حدّهِ الرهيف. النضال الفني الذي يصعد بالإنسان، ويسعى به نحو آماله وأحلامه، معبراً بجرأة فن الحرية، بدون التفريط في حرية الفن. كان ناجي العلي، في ما يتشبث بحق العدالة، يصعد، بحساسية الإنسان ووعيه، إلى شرفة جماليات الحلم الإنساني الذي يصقل الحياة كما الجواهر. النضال، هو الطريق الذي دفع ناجي العلي حياته مقابل التشبث به، في محاولة لاستكمال زواج الحلم بالحياة.
 
6
 
بالقدر الذي يأتي «حنظلة» من تاريخ عربي قديم، سيتصل بالمعنى العميق للمرارة التي يتجرعها الإنسان العربي منذ فجر تاريخه. ففي اللغة: «الحنظل» من المرّ، وشخصية حنظلة كائنٌ تاريخي عربي، كان فضيحة قبيلة التاريخ العربي القديم، شخصية رمزية يعيد بها ناجي العلي فضح علقم التاريخ العربي المعاصر، الذي نتجرعه لا نزال، وربما كان في (طريقة) موت الفنان نفسه شكلٌ دالٌ للفضيحة. غير أن كاريكاتير هذا الفنان تأكيدٌ نوعيٌ على ذلك الذي لا يفنى في الذي يموت.
 
7
 
ولعل في واقعنا العربي، الذي لم ينج ناجي العلي من تدهوره المتواصل، ما يشي بجانبٍ يقارب السيريالية، التي كانت قد رأتْ في «الدعابة السوداء» شكلاً من أشكال تدمير الواقع واختراق شروطه. تلك الشروط التي تسعى دوماً إلى فرض الواقع بوصفه الحقيقة. وهنا تكمن خطورة فعل الفن الثوري الذي آمن به ناجي العلي وذهب إليه. ثمة أعمال، عندما حققها ناجي العلي، تصوّر حياتنا برؤية تضرب في العمق السياسي، وتدفعنا إلى اكتشاف ضراوة عنفٍ يخرج بِكياننا البشري إلى وحشية غابات تتقهقر بِنَا فاتكةً بالحاضر والمستقبل دفعة واحدة، غير مكترثة بالمنطق الحياتي المتصل بالشرط الإنساني البسيط. ذلك هو ما نشعر بفداحة خسارته حين نفتقد موهبةً مثل ناجي العلي.
 
٭ شاعر بحريني