عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    13-Dec-2019

“واتقوا الله لعلكم تفلحون” - د. محمد المجالي
 
الدستور- استوقفني ذكر لفظ (الفلاح) في سورتي البقرة وآل عمران، وهما اللتان سمّاهما النبي صلى الله عليه وسلم بالزهراوين، فجمعهما معا، وما هذا الجمع إلا لشيء من التكامل والفضل، فالقرآن في سوره وآياته نظمٌ متّسق متعاضد مُحكَم، ومع أن لكل سورة موضوعها الرئيس ومحورها الذي تلتقي عليه وحوله الموضوعات الفرعية الأخرى إن وُجدت، إلا أن بين السور بهذا الترتيب من الترابط ما يكشف عن أسرار بديعة.
وعودة إلى عنوان المقال، فهو آخر جملة من سورة آل عمران، وإذا ربطناها بأول موضوع ذكره الله تعالى في سورة البقرة بعد الافتتاح بالحروف المقطعة وذكر الكتاب الذي لا ريب فيه، وأنه هدى للمتقين، ثم يبين من هم هؤلاء المتقون، الذين يقيمون الصلاة ومما رزقهم الله ينفقون، ويؤمنون بما أُنزِل إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم وما أُنزِل من قبله من وحي على الأنبياء قبله، ويوقنون بالآخرة، أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون، فقد عرّف الله المتقين بهذه الأمور، ورتّب عليها الهداية والفلاح، الهداية في الدنيا وقد طلبوها في سورة الفاتحة ذات الدعاء الأوحد الذي نكرره في يومنا في صلواتنا على الأقل سبع عشرة مرة (عدد ركعات الفريضة): “اهدنا الصراط المستقيم”، ثم الفلاح في الآخرة، حين ظفروا برحمة الله وجنته ورضوانه.
تكاد السورتان (البقرة وآل عمران) تكملان بعضهما، ابتدأت الأولى بصفات المتقين الموصلة إلى الفلاح، واختتمت الثانية بالأمر بالتقوى رجاء الفلاح، وبينهما من التشريعات والتوجيهات والهدايات والعبر الشيء الكثير، فالذي جاء في سورة البقرة هو ما يؤهل المؤمنين ليكونوا أمة الخلافة، حيث ذكر الله أنه جاعل في الأرض خليفة، فقص علينا قصة خلق آدم والصراع بينه وبين إبليس، ولتخْلُف أمةُ الحق قومَ موسى الذين فرّطوا بحمل أمانتهم، ترددوا وتنكروا وكفروا، ولعل تسمية السورة بالبقرة إشارة إلى قصتها لا إلى ذات البقرة، فقد بينت تلكؤهم وترددهم ومكرهم وحِيَلَهم، وهذه لا تناسب أمة الخلافة، فلا يغرّنهم أن الله فضلهم على العالمين، فهو تفضيل مؤقت ما داموا على الحق، أما وقد تنكّبوا طريقه فلا بد من الاستبدال، فيريد الله أن يهيئ أمة محمد لتخلف بني إسرائيل، فينهانا عن أن نكون مثلهم، بل لنكون أمة الإقدام والاستسلام له تعالى فيما أمر ونهى وأرشد وهدى، لنكون من المتقين المهتدين المفلحين.
جاءت سورة البقرة بحديثها المسهب عن بني إسرائيل، وعن ملة إبراهيم، وأرشدت إلى تشريعات كثيرة في النفس والأسرة والمجتمع والدولة والأمة، اقتصاديا واجتماعيا وتربويا وسياسيا، لتقول للناس إن هذا الدين منهج شامل ونظام حياة لا ينفع معه التردد والنكوص والتخاذل، فلتأخذه أمة محمد صلى الله عليه وسلم بقوة ووعي ومسؤولية، فقد شرّفنا الله بهذا الدين وكلفنا في آن واحد، لا نعيش على مجرد كوننا خير أمة أُخرِجت للناس كما في سورة آل عمران، فقد بين الله تعالى فيها جوانب من مواقف النصارى بعد أن بين جوانب من مواقف اليهود في البقرة، ودلالة اسم (آل عمران) تلقي بظلالها على موضوع السورة، حيث حوار النبي صلى الله عليه وسلم مع نصارى نجران، إلا أن السورة قد اشتملت على جوانب كثيرة ووصايا واضحة لأمة محمد التي هي خير أمة أُخرجت للناس بألا يحيدوا عن الحق، بل الثبات الثبات، فمجرد أمر بسيط وخلل لا يكاد يتخيله أحد أنه معصية حصل للمؤمنين في غزوة أُحُد قد سبب لهم الهزيمة المادية، فعاتبهم الله عتابا شديدا، وكأن الآيات تقول لهم إن لم يكن الاستسلام الكامل لأمر الله فلا نصر لكم، بل إن هذه الخيرية قد تزول ولو مؤقتا لأنها مرتبطة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والاستسلام الكامل لله تعالى.
والعجيب أن نهاية سورة آل عمران تنتهي بتلك الدعوات الصافية الوادعة التي يتوجه بها العبد في مناجاته لله، يدعوه أن يقيه عذاب النار، ويغفر له ذنوبه ويتوفاه مع الأبرار، وأن يؤتيه ما وعده على لسان رسوله، ولا يخزيه يوم القيامة، فهو لا يُخْلِف الميعاد، سبحانه. وبعدها يبين الله استجابته لهؤلاء، ويذكر توجيهه الذي ينبغي أن يدركه المؤمنون في كل وقت قد تتراجع فيه الأمة عن ريادتها وتألقها، فالله يداول الأيام إن تخلينا عن منهج العزة، ومع ذلك يترك لنا الأمل: “لا يغرنك تقلّب الذين كفروا في البلاد، متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد”، ولعل ذكر النصارى على وجه التحديد، خاصة من آمن منهم فمدحهم الله تعالى ما يشير إلى ضرورة الدعوة واستمرارها معهم على وجه التحديد، وهو ما نشهده حقيقة هذه الأيام فمعظم الذي يسلمون منهم، لتنتهي السورة بهذا النداء العجيب في الصبر، الصبر على الدعوة والحوار، وعلى الأذى المعنوي والمادي، وعلى القتال وتحمل المسؤولية عموما، فقال تعالى: “يأيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا، واتقوا الله لعلكم تفلحون”، صبر في تكاليف هذا الدين، ومصابرة مع أعدائنا تدعونا إلى الرباط والتمسك بالحق، وغلاف كل هذا تقوى لله، لعلنا نكون من المفلحين.
بقي أن أقول إن لفظ الفلاح جاء في سورة البقرة أيضا عند الحديث عن إتيان البيوت من أبوابها لا من ظهورها، وقد أخذ الناس منه مثلا في أدب دخول الأشياء من أبوابها الصحيحة، وورد كذلك في سورة آل عمران عند الحديث عن وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعند النهي عن أكل الربا، تنوّع لا يستهين المؤمن بتفرعاته، إن كان يريد الفلاح، فالفلاح يكون مع تكليف وعمل، ويؤدي إلى الفوز والظفر بما تمناه، ومن أمثلته ما جاء في آخر سورة آل عمران: “فمن زُحْزِح عن النار وأُدخِل الجنة فقد فاز”، فاللهم اجعلنا من المفلحين الفائزين.