الراي
دخلت الحرب السورية في منعطف جديد، عنوانه السرعة والمفاجأة وتبدل المواقف الدولية بتبدل المصالح، وكذلك غياب المشروع العربي المشترك في ظل تنافس ثلاثة مشاريع عالمية وإقليمية قد تلتقي او يلتقي إثنين منها، فالجميع يتعامل مع الأمر بأنه موضوع وجود باستثناء أشقائنا العرب الذين يصروا ويريدوا عدم التعامل معه بهذا الشكل، وعليه لن أتطرق بهذا المقال إلا للمصلحة الأردنية العليا لأن الأردن أولا في ظل غياب مشروع عربي وبالتأكيد فلسطين سوف تبقى البوصلة لأن الأردن لا يمكن المزاودة عليه بهذا الشأن.
لقد استعادت الفصائل المسلحة نشاطها السابق، وسيطرت على محافظة إدلب وحماة وحلب ودرعا -حتى تاريخ كتابة هذا المقال-، إذ بدأت تتوسع العمليات العسكرية في محاولة السيطرة على كامل القطر السوري، حيث تشير البيانات الصادرة في وقت متأخر من مساء الجمعة عن هيئة تحرير الشام المُعارضة لنظام الأسد بأنها وصلت إلى حدود مدينة حمص، والتي تعد من وجهة نظر عسكرية بأنها معقل الحرس الثوري والمليشيات الإيرانية، وواحدة من المحطات الرئيسية في سياق ردع التوسع الإيراني ومحاولة قطع طريق توريد السلاح إلى حزب الله في لبنان.
حيث استغلّت الفصائل المسلحة الفراغ الاستراتيجي الذي خلّفه انسحاب قوات حزب الله في الأسابيع الماضية، والتي كانت تقدّم الدعم والاسناد للقوات النظامية، حيث أشارت الأحداث المتسارعة إلى أن قصور قدرة إيران وعبر وكلائها في المنطقة على ملء الفراغ الذي كان يملؤه حزب الله، نتيجة عدة عوامل أبرزها ضعف القدرات القتالية للمليشيات مقارنة مع قدرات حزب الله.
هذا التوتر واشتعال فتيل الأزمة من جديد، وعدم وجود حل سياسي يثير مخاوف الأردن، خاصة أن الأردن ما زال يعاني من تبعات اللجوء السوري، وتراجع الدعم الدولي وتعهدات دول عدّه لدعم الأردن جرّاء استضافة اللاجئين السوريين، ومن جانب آخر فإن الهاجس الأمني يلقي بظلاله، خاصة وأن الحدود الأردنية السورية غير منضبطة من الجانب السوري، وتتسارع عليها الأحداث من ميليشيات مسلحة هدفها خلق خواصر رخوة على الشريط الحدودي، في محاولة نقل الأزمة -لاقدّر الله- إلى الداخل الأردني، وهذا ما يستدعي الوقوف على الخيارات الأردنية وطريقة التعاطي مع الأزمة القديمة المتجددة في سوريا.
في سياق تفسير المعطيات الجديدة على الساحة السورية، فقد عانى النظام السوري من ارتهان قراره السياسي نتيجة توسّع التأثير الإيراني والروسي والأمريكي على النظام السوري، وذلك في محاولة لتقزيم دور النظام السوري لمكتب تنسيق أمني لا أكثر، ومحاولة تحويل سوريا لجغرافيا تتناحر عليها المعسكرات، ويتحول فيها نظام الأسد من لاعب في المعركة إلى متفرّج، وأرضيته كملعب تتصارع عليه المشاريع الإقليمية، حيث يمكن تقسيم القوى في سوريا إلى ثلاثة معسكرات أو ثلاثة مشاريع، فالأول صهيو-أمريكي، والثاني المشروع التركي، والثالث مشروع الممانعة (الروسي-الإيراني والمليشيات المدعومة منهم)، ولذلك علينا أن نفهم أبجديات تحرك هذه المشاريع ومراقبة تفاعلاتها للتوصّل إلى تفسير حقيقي ومنطقي يُبنى عليه في اتخاذ القرارات الإستراتيجية للأردن.
أولا: المشروع الصهيو-أمريكي: حيث تمتلك أمريكا 17 قاعدة عسكرية بالإضافة لعدد مماثل من نقاط المراقبة العسكرية على الأراضي السورية، حيث ما زالت تسعى إسرائيل على تصعيد الأزمة في الداخل السوري، وذلك لوقف التمدد الإيراني-الروسي على الجبهة السورية، ومن ثم تحييد ساحة سوريا ضمن محور المقاومة أو الممانعة، حيث ما زالت تتعامل مع كل ساحة على حده، وذلك لتجفيف منابع الخطر الوجودي على إسرائيل -من وجهة نظرهم-، وأعتقد أن إسرائيل وأمريكا لن تتدخلا بشكل مباشر طالما لم تتعرض مصالحها الأمنية للتهديد المباشر، وكما قال إسحاق شامير ذات مرة أثناء الحرب الإيرانية العراقية في ثمانينيات القرن العشرين ــ عندما كان اثنان من ألد أعداء الدولة اليهودية يضعف كل منهما الآخر ــ فإن إسرائيل تستطيع أن «تتمنى النجاح لكلا الجانبين».
ثانياً: المشروع التركي: تمتلك تركيا 12 قاعدة عسكرية، وما يفوق 90 نقطة مراقبة داخل الجغرافيا السورية، حيث تنظر تركيا إلى الجغرافيا السورية جيو-إستراتيجياً كمنطقة مهمة للتوسع وأيضاً كمنطقة غنيّة بالثروات التي تصل إلى تركيا عن طريق المليشيات المسلحة وداعش بأبخس الأثمان، فالنظرة الاقتصادية تأخذ جانب إستراتيجي مهم في المشروع التركي، بالإضافة إلى أن تركيا تعاني من تبعات اللجوء وبالتالي تعمل على صناعة جيوب عازلة في الداخل السوري بمحاذاة الشريط الحدودي لاحتواء عملية اللجوء وتخفيف وطأة وكلفة ذلك على بلدهم.
ثالثاً: محور الممانعة: تمتلك روسيا 21 قاعدة، وما يفوق 90 نقطة مراقبة عسكرية، وإيران تمتلك رقماً كبيراً، ولكن لا يمكن ضبطه نتيجة تداخل المليشيات وتعددها على الساحة السورية، حيث تسعى إيران ومن خلفها روسيا وعبر وكلائهم في المنطقة إلى نشر الفوضى ومحاولة ردع وتحجيم الدور الإسرائيلي في الشرق الأوسط، ونقل الأزمة إلى الداخل الإسرائيلي على اعتبار أن إسرائيل تتعمد ذلك خلال السنوات الخمس الأخيرة على أقل تقدير، وباعتقادي أن روسيا قد تستخدم ورقة سوريا في محاولة حل الأزمة مع أوكرانيا، فإسرائيل وأمريكا يسعون إلى تجفيف منابع توريد الأسلحة إلى لبنان عبر سوريا، وفي المقابل فإن فلاديمير بوتين من الممكن أن يقوم بتسوية لصالحه في هذا الجانب، وتتوقف الإجابة على ذلك من خلال جدّية بوتين في التمسّك بالنظام السوري من عدمها.
بإعتقادي فإن ما يحدث اليوم هو صراع لهذه المشاريع على أرض سوريا، ما يحدث هو إعادة تموضع وانتشار بين المشاريع الثلاث، فإيران تريد وضع اسرائيل ضمن هلال مليشيوي من الخطر شمالاً في جنوب لبنان ووسطاً من خلال سوريا، وجنوبا من خلال الفصائل المقاومة في جنوب فلسطين، وبالمقابل تسعى اسرائيل إلى تحييد ايران ومليشياتها بعيداً عن مناطق التهديد الاستراتيجي لها، حيث تتقاطع المصلحة في هذا السياق بين المشروع التركي والصهيو-أمريكي، إذ أن النظرة الإسرائيلية لدور تركيا كقوة عظمى في سوريا، كونها تقطع المشروع الفارسي إلى نصفين.
وبالعودة للخيارات الإستراتيجية للأردن على اعتبار أنه يمتلك شريطاً حدودياً طويلاً مع سوريا وعانت خلال السنوات الأخيرة من زيادة النشاط الجُرمي على الحدود، وتحوّل عمليات تهريب المخدرات إلى عمليات بدأت تأخذ الطابع الإرهابي، وذلك اعتماداً على نوعية الأسلحة التي يحملها المهربين، وهذا ما يجعل مسألة ضبط الحدود مهمة جداً، وبالتالي على الأردن تعزيز انتشار القوات المسلحة على الواجهة الشمالية وتطبيق قواعد الاشتباك دون تردد على كل من تسوّل له نفسه المساس بأمن المملكة.
الأردن وخلال السنوات الماضية عمل على سلسلة من الإجراءات من شأنها تصفير الخلافات مع الجميع، وأصبحت الأردن بنشاطها الدبلوماسي الذي يقوده جلالة الملك دولة غير خلافية في الإقليم، وقادرة على اتخاذ مواقف متباينة من منطلق مصالح الأردن العُليا، بعيداً عن مواقف المعسكر الشرقي والغربي، ولكن يجب استغلال هذا الموقف وتقديم مبادرة عربية سريعة للوصول لتسوية سياسية ما في سوريا، ومن أبرز هذه الخيارات أن تقوم الاردن بعقد جلسة طارئة لجامعة الدول العربية بالإضافة للفاعلين في سوريا، وذلك لضمان رأب الصدع ووحدة الجغرافيا السورية ومنع المشاريع الدولية من نيل مرادها بالتقسيم، فالأردن كان وما زال موقفه واضحاً في التعاطي مع الأزمة السورية ولا سيما خلال الأشهر الماضية، فإن النظام السوري ما زال صاحب شرعية، وتتعامل معه الأردن كممثل للجمهورية السورية، حيث أن المصلحة الأردنية تتطلب أن تكون سوريا والعراق مستقرّتين، إذ شكّلتا تاريخياً عُمقاً إستراتيجياً للأردن.
وباعتقادي فإن تعزيز الجبهة الداخلية مهم جداً في سياق دعم الجهود المبذولة من القيادة والمؤسسات العسكرية، مما من شأنه أن يعزز صمود الأردن كما عهدناه كالصخرة التي تتكسر عليها كل المشاريع والمؤمرات الخارجية، وهذا يتطلب كما أسلفت في مقال سابق أن رجالات الدولة عليهم أن يكونوا مؤازرين وداعمين لرواية الدولة والاشتباك الإيجابي مع الشارع الأردني.
الخيارات الإستراتيجية للأردن من الممكن أن تتغير وتتكيّف بناء على السيناريوهات المفتوحة، سواء أكان بقاء النظام بشكله الحالي أو تحوّل الحكم فيها لقيادة مؤقتة، أو إستمرار العمليات العسكرية بين القوات النظامية والمليشيات، وبإعتقادي أن بقاء السيناريوهات مفتوحة على المُطلق قد يُعزز من الغموض الإستراتيجي الذي يستدعي أن يكون الأردن جاهزة لأي منها وتكييف خياراتها حسب المصلحة الوطنية العُليا.
الملف السوري يحمل من التعقيد الكثير، وتداخل القوى المتناحرة يزيد الأمور تعقيداً، فكل المشاريع تُراعي مصالحها، والكل خاسر وإن انتصر شكليّاً، (lose-lose situation)، ولكن على الرغم من كل هذا التعقيد نثق بقدرة الأردن وقواته المسلحة على التصدي لكل خطر، فالأردن قوي بقيادته وشعبه وأجهزته الأمنية.
حمى الله الأردن شعبا وأرضا وقيادة، وسياجنا قواتنا المسلحة وأجهزتنا الأمنية.