عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    07-Dec-2018

لماذا الحرب؟ ولماذا العدو؟

 نادر كاظم

كتب أحمد بن فارس(329-395هـ)، عالم اللغة المعروف وصاحب معجم “مقاييس اللغة”، ذات مرة، إلى بديع الزمان الهمذاني يشكو إليه فساد الزمان وتغيّر الإنسان، فردّ عليه بديع الزمان: “أتزعم أن الزمان فسد؟ أفلا تقول متى كان صالحاً؟ أفي الدولة العباسية، وقد رأينا آخرها وسمعنا أولها؟”، ثم راح هذا الأخير يعدد حوادث الفساد وسفك الدماء والحروب التي اتصلت حلقاتها منذ خلق الإنسان والملائكة تقول: “أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء” (البقرة: 30). حتى الدولة العباسية مروراً بالدولة الأموية وما قبلها. الأمر الذي يعني، من وجهة نظر الهمذاني أن “الزمان ما فسد، ولكن القياس قد اطردّ، ولا أظلمت الأيام، إنما امتدّ الظلام”. بمعنى أن الزمان يفسد إذا كان صالحاً، لكنه لم يكن صالحاً قطّ، بل كان فاسداً منذ البداية، وما الفساد الذي يتجدد كل حين سوى استمرار للفساد الأول والقديم الذي اتصلت حلقاتها وتواصلت.
 
هل هذه نظرة تشاؤمية؟ أم هي وجهة نظر واقعية من تلك التي تتأسس على طبيعة الإنسان الشريرة والفاسدة والتي لا أمل في إصلاحها؟ لا يقدّ  الهمذاني تفسيراً لهذا الفساد، كما أنه لا يوجه أصابع الاتهام إلى طبيعتنا البشرية، بل يفهم من كلامه هو أن الفساد جزء أصيل من هذا العالم، وأن الشر نزعة متأصلة ولا يمكن استئصالها من الوجود البشريبدليل كل هذه الشواهد التاريخية التي يأتي على ذكرها. أما لماذا؟ فهو سؤال بقي معلّقاً وبلا جواب.
 
ومهما يكن الأمر فإن ما انتهى إليه فكر الهمذاني حول فساد الزمان المطرد ليس بعيداً عما انتهت إليه واحدة من أعظم مناظرات النصف الأول من القرن العشرين، حيث كَلّفت عصبة الأمم والمعهد الدولي للتعاون الفكري في باريس، في العام 1932، عالم الفيزياء الشهير ألبرت أنشتاين (1879 -1955) بإدارة نقاش صريح حول أية مشكلة يختارها هو بنفسه. كان على آينشتاين أن يختار موضوع النقاش والشخص المناسب الذي سوف يتبادل معه وجهات النظر في هذه المناظرة. وقد اختار آينشتاين للنقاش مشكلة الحرب وأسبابها وكيفية الخلاص من تهديدها. واختيار موضوع النقاش سيسهّل عملية اختيار الشخص المناسب كشريك لآنشتاين في هذه المناظرة الثنائية. وكان من المنتظر أن يكون هذا الشخص مفكراً سياسياً أو شخصية دولية أو مختصاً في شؤون الحروب أو العلاقات الدولية، إلا أن اختيار آينشتاين وقع على سيغموند فرويد (1856 -1939)، عالم النفس المشهور والذي أتم قبل سنوات قليلة من دعوة آينشتاين، تأليف كتابه “الحضارة وإحباطاتها” (تُرجم إلى العربية بعنوان “قلق في الحضارة”)، وهو الكتاب الذي شرح فيه نظريته حول التلازم بين الغريزتين الأساسيتين لدى الإنسان: الغريزة الجنسية، والغريزة العدوانية، غريزة البقاء، وغريزة الموت والتدمير.
 
لم يكن اختيار موضوع المناظرة عسيراً، فآنشتاين كان يرى أن الحروب هي المشكلة الخطيرة التي يتحتم على البشرية مواجهتها؛ وإلا فإنها يمكن أن تهدد وجودها في الصميم بحكم التقدم الكبير في الأسلحة المدمرة. وبتعبير هربرت جورج ويلز “إذا لم نقضِ على الحرب، فإن الحرب ستقضي علينا”. وعلى هذا فإن مستقبل البشرية يبقى مرهوناً بمدى نجاحها في وضع حدّ لهذه الحروب أو التقليل من مخاطرها على أقل تقدير. كل هذا كان مقنعاً، ولكن لماذا فرويد على وجه التحديد؟ لقد قرأ أنشتاين كتاب فرويد “الحضارة وإحباطاتها”؛ بدليل أنه يعبّر، في رسالتهإلى فرويد، عن إعجابه بفكر فرويد وبالفكرة الأساسية التي تمثل صلب الكتاب، وهي الكشف عن ذلك “التلازم بين غريزة العدوان والتدمير وغريزة الحب والرغبة في الحياة في النفس الإنسانية”، كما أنه يعبر إلى فرويد عن مدى شكره “على العديد من الساعات الممتعة التي أتيحت لي في قراءة أعمالكم. ومن دواعي سروري دائمًا أن ألاحظ أنه حتى أولئك الذين لا يؤمنون بنظرياتك يجدون صعوبة كبيرة في مقاومة أفكارك، لأنهم يستخدمون مصطلحاتك في أفكارهم وخطبهم عندما يكونون غير حذرين”.
 
إلا أن آينشتاين يبدي، في البداية، وجهة نظر بعيدة عن نظريات فرويد، وهي أقرب ما تكون إلى مشروع إيمانويل كانطعن “الحكومة العالمية”. فقد كان آينشتاين يرى أن حل معضلة الحرب يكمن في “إنشاء هيئة قضائية وتشريعية لتسوية النزاعات الناشئة بين الدول، بموافقة دوليَّة، تلتزم كل الدول بالامتثال للأوامر التي تصدرها وتلجأ إلى قراراتها في كل النزاعات”.
 
لكن المشكلة ليست في وجود مثل هذه الهيئة، بل في فرض الخضوع لها والامتثال لقراراتها وأحكامها، وهذا لن يكون إلا بتوافر قوة عالمية تفرض قرارات هذه الهيئة. وفي ظل غياب هذه القوة لا معنى لوجود تلك الهيئة القضائية العالمية. وفي النهاية، يذهب آينشتاين، تأثّراً بأفكار فرويد هذه المرة، إلى القول بأن الحروب ترتكز على رغبة غريزية قوية ومتجذرة في نفوس البشر، تلك هي غريزة الكراهية والتدمير والعدوانية. وهذه غريزة كامنة ويمكن استثارتها بقوة في أية لحظة وبخاصة في أوقات الاضطرابات والتجييش الجماعيين. ويبدو أن هذه القناعة تحديداً هي التي حملت أنشتاين على اختيار فرويد شريكاً له في هذه المناظرةالفريدة، والتي بقيت مهملة وغير معروفة عربياً وعالمياً.فقد نشرت بالألمانية أولاً في كتيب وزعت منه 2000 نسخة فقط، ولم يكن الحال أفضل مع الطبعة الإنجليزية الأصلية.
 
 
 
من اين تستمد دورة العنف المتجدد مصدرها الأصلي؟
 
ابتدأ فرويد، تماماً كما فعل آينشتاين، بالبحث عن تفسير عملي للحروب ونزعات التدمير في تاريخ البشر. وشرع يطرح نظريته الأولية عن أصل الدولة كما سنناقشها بعد قليل. في البدء كان العنف، عنف القوي المنتصر، ثم حصل أن اتحد الضعفاء لوضع حدّ لعنف هذا الأخير. إلا أن دورة العنف لا تتوقف عند اتحاد الضعفاء، لأن المجتمع أكثر تعقيداً مما نظن، فهو يتألف من مصالح وعناصر قوى غير متكافئة، الأمر الذي يعني تجدد العنف عندما يعمد اتحاد الضعفاء إلى توظيف “القوة/القانون” لصالحهم. الأمر الذي يطرح السؤال مجدداً: من أين تستمد دورة العنف المتجدد مصدرها الأصلي؟ بالنسبة إلى فرويد فإن العدوانية هي هذا المصدر الذي نبحث عنه، وهي غريزة ترتكز على ميول ونوازع متجذرة في الإنسان، ولا يمكن اقتلاعها من جذورها، ولا يمكن قمعها بصورة كاملة. ولهذا فلا جدوى من محاولة التخلص منها؛ لأنها ترتكز على “استعداد غريزي بدائي مستقل بذاته”.وكل ما يستطيع البشر عمله تجاه هذه الميول والنوازع الغريزية هو محاولة تصريفها في قنوات أخرى غير قنوات الحروب والصراعات المدمرة. ويكفي، بتعبير فرويد، ان “أن تحاول الإبقاء عليها في المستوى الذي لا يحتاجون فيه إلى ترجمتها إلى حرب”،من حيث أن الحربلم تكن سوى ضرب من ضروب التصريف العنيف للنوازع العدوانية القاتلة عند البشر.
 
من هنا، كانت العدوانية أعظم عقبة وأخطر عائق يقف ضد تقدم البشرية التي يتقرر مصيرها بمدى قدرتها على التغلب على هذه الغريزة، وبمدى قدرتها على “تذليل كبرى العقبات التي تصطدم بها الحضارة”. إلا أن فرويد اكتشف أيضاً أن للعدوانية وظيفة من نوع آخر، فهي وسيلة لتعزيز التلاحم داخل الجماعة أو الأمة. لا يمكن تصور أمة تكون حدودها هي كامل حدود الإنسانية جمعاء، لأن العدوانية ستكون، عندئذٍ، مكفوفة وبلا موضوع تستهدفه، مما يعني أنها سترتدّ على الذات لتصبح هي هدف العدوان والتدمير. افترض فرويد أن للعدوانية طاقة في نفوسنا تماماً كما افترض أن الليبيدو هو الطاقة التي تمدّ غريزتنا الجنسية بالحيوية، وأن هذه الطاقة لا بد من تفريغها خارج الذات، خارج الجماعة من أجل حفظ الذات وحفظ الجماعة. فالحب والتوادّ والتراحم الذي يؤسس أواصر الروابط بين جماعة ما لا يمكن ضمان استمراره إلا باختراع آخرين تكون وظيفتهم تلقي الضربات، ضربات العدوانية، وإلا ارتدّت الضربات إلى داخل الجماعة مهددة بإنقسامها وتفتّتها.
 
هذه هي الخلاصة التي يمكن الخروج بها من هذه المناظرة التي نُشرت في العام 1933 بعنوان “لماذا الحرب؟”. وتعد هذه المناظرة التي لم يكتب لها الذيوع والانتشار على نطاق واسع، واحدةً من أهم المناظرات التي عرفها النصف الأول من القرن العشرين؛ لأنها جمعت بين اثنين من أعظم علماء القرن العشرين في العلوم الطبيعية (ألبرت أنشتاين)، والعلوم الإنسانية (سيغموند فرويد). واللافت حقاً أنه لو عاد هذان العالمان إلى الحياة اليوم لما تغيّرت خلاصتهما، ولما اختارا، أساساً، موضوعاً للنقاش غير الحروب والميول والنوازع العدوانية لدى البشر،  الأمر الذي يعني أن المعضلات الكبرى التي واجهت البشرية في النصف الأول من القرن العشرين، هي ذاتها التي مازالت تواجهنا في النصف الأول من القرن الحادي والعشرين. وإذا كانت مشكلة الحروب العالمية الكبرى قد أطّرت مناظرة أنشتاين/فرويد في العام 1932، فإن النقاش الراهن تؤطره حروب وصراعات كبرى وصغرى بين الحضارات وداخل كل حضارة. أما على المستوى الدولي فإن خطر اندلاع الحروب يبقى قائماً في ظل هشاشة الترتيبات الأممية القائمة لكبح جماح الدول الكبرى. وتشاء الأقدار أن تكون منطقتنا، في آسيا وأفريقيا، الساحة المفتوحة أمام هذه الدول/الأفيال الضخمة المتصارعة لتسوية خلافاتها وتصريف صراعاتها والحروب بالوكالة القائمة فيما بينها.
 
 
 
لماذا الحرب أصلاً؟
 
غير أن السؤال الأهم هو: لماذا الحرب أصلاً؟ وما الأسباب الحقيقية والغايات المرجوّة التي تقف وراء الحروب؟ ويمكن القول، مع  مايكل هاورد،  بأن “أسباب الحرب لم تتغيّر جوهرياً على مرّ القرون؛ فما اعتبره  ثوسيديدس سبباً للحرب البيلوبونيزية، وهو تنامي القوة الأثينية والخوف الذي سببه ذلك لدى إسبرطة، هو نفسه ما يمكن اعتباره سبباً في اندلاع الحرب العالمية الأولى، وهو تنامي القوة الألمانية والخوف الذي سببه ذلك لدى بريطانيا”. الأمر الذي يعني أن الحروب هي دوماً نتيجة حتمية لذلك النوع من التنافس على القوة، وعلى منع التهديد المحتمل من قبل قوة أخرى. وما دام هذا التنافس قائماً، ومادامت هذه التهديدات موجودة، فإن سباق التسلح يكون هو النتيجة، ويبقى خطر الحرب المحتملة مخيّماً على البلاد والعباد.
 
والإشارة إلى ثوسيديدس في القرن الخامس قبل الميلاد مهمة؛ لأن الكثيرين يعتبرونه أقدم مؤرخ حروب واقعي سياسي، لكونه تنبه، في وقت مبكر وهو يؤرخ للحرب البيلوبونيزية (431 ق.م – 403 ق. م) إلى دور القوة (أو شهوة القوة كما يسميها) والخوف من تنامي قوة الخصم في اندلاع الحروب التي تحتكم إلى منطق القوة الذي يجعل “القوي يفعل ما يشاء، والضعيف يقاسي بقدر ما يفرض عليه من معاناة”. وهي عبارة ظلّ صداها يتردد مع أكبر خبير عسكري ألماني في القرن التاسع عشر، أي كارل فون كلاوزفيتز (1780 – 1831) عندما عرّف الحرب بأنها “عمل من أعمال القوة لإجبار العدو على تنفيذ مشيئتنا”، بمعنى أن فرض قوتنا على العدو بعد طرحه أرضاً، وتجريده من سلاحه ومن كل وسائل مقاومته، هي الغرض الجوهري من وراء الحرب.
 
لا يبدو أن كلاوزفيتز مختلفاً عن فرويد عندما كتب أن الدوافع التي تدفع الناس للحرب تكمن في “المشاعر العدائية والنوايا العدوانية”. وعلى الرغم من قناعة كلاوزفيتز بأن الحرب تختلف بين الشعوب المتحضرة عن تلك التي تندلع بين الشعوب “الهمجية”، إلا أنه يقرّ بأن هذه المشاعر والنوايا العدوانية ثابتة بين الجميع، فـ”حتى أكثر الشعوب تمدّناً يمكن أن تهيج بفعل حقد بعضها على بعض”.
 
وقبل كلاوزفيتز كتب نيكولو ميكافيللي (1469 – 1527) كتابه “فن الحرب” الذي قال عنه فولتير أن “ميكافيللي علّم أوروبا فن الحرب الذي نمارسه منذ زمن طويل من دون أن نعرفه”. وميكافيللي يؤسس توجهه، في كتاب “الأمير”، على أمرين جوهريين: فساد الطبيعة البشرية، ومتطلبات السلطة والحفاظ على الملك. فإذا كانت الغاية الأساسية هي الوصول إلى السلطة والاحتفاظ بالملك، فإن على “الأمير” أن يعلم أنه يحكم بشراً لا ملائكة، وأن هؤلاء البشر أشرار بطبيعتهم، وهم يتصفون، بشكل عام بنكران الجميل، والتقلب وسرعة التحول، وحب الكسب، والميل لاتقاء الأخطار. والحاصل أن أناساً بهذه الطباع يمكن أن يحكموا باستغلال ذكي لهذه الطباع، أي بالخوف والرهبة. وإذا كان “الأمير” مخيراً بين حب الناس أو خوفهم، فإن عليه أن يعوّل على خوفهم إذا أراد الاحتفاظ بملكه.
 
وإذا كان الناس أشراراً بطبعهم فإن الاحتفاظ بالوعود وعدم نكثها قد يجلب الخراب للملك. ويميز ميكافيللي بين الجمهوريات والإمارات المثالية من النمط الأسمى، والجمهوريات الواقعية في حياتنا العادية. بل إن من يهمل “ما هو كائن لأجل ما ينبغي أن يكون يجلب على نفسه الخراب العاجل”؛ والسبب أن عالم الحكم ليس هو عالم الحياة الاجتماعية أو الدينية أو الأسرية، حيث قد تنقالرذائل إلى فضائل في عالم الحكم، والعكس بالعكس. وميكافيللي ينصح “الأمير” بأن “لا يخشى عار المعايب التي يصعب عليه بدونها الاحتفاظ بالملك”.
 
ولربما مثّل  توماس هوبز ذروة هذا النوع من التفكير الواقعي السياسي. فبالنسبة إلى هوبز فإن الإنسان، في حالته الطبيعية، شرير بطبعه، وأن هذه “الطبيعة الشريرة” تكشف عن نفسها، في ظل ندرة الموارد، في حالة دائمة من التنافس والصراع والفوضى وحرب الجميع ضد الجميع، ولا خلاص من هذه الدوّامة سوى بالدولة التي تمثل، من وجهة نظر هوبز،”الإنسان الاصطناعي” الذي اجتمعت فيه وتركّزت (تمركزت) بداخله خلاصة قوة الأفراد وإرادتهم؛ الأمر الذي جعل من الدولة قوة كبرى، وإرادة لا تضاهى قياساً بقوة الأفراد المتفرقين، وإراداتهم المبعثرة.
 
تمثل الدولة، على هذا، نوعاً من “وحدة الجميع الفعلية في شخص واحد”. وهو ما جعل هذا “الشخص الاصطناعي الواحد” بمثابة “اللوياثان الكبير” أو “الإله الفاني” الذي يثير الرعب في نفوس الأفراد، الأمر الذي يردعهم ويجعل إرادتهم تتأقلم شيئاً فشيئاً من أجل تحقيق السلم الأهلي. إلا أن هذه السلطة المطلقة التي يكتسبها هذا اللوياثان الضخم إنما هي نوع من التفويض من قبل الأفراد، وهي مقيدة بغاية أساسية هي حماية “الإنسان الطبيعي” ووضع حدّ لـحرب الجميع ضد الجميع وما تسببه من فوضى شاملة يتعذر معها العيش بسلام؛ فمن أجل هذه الغاية، كما يكتب هوبز، “صنع البشر رجلاً اصطناعياً، وهو ما نسميه بالدولة”.
 
لكن المفارقة، في تاريخ البشر، هي أن الوسيلة التي اخترعها البشر لوضع حدّ لدورة الحرب الشاملة وحرب الجميع ضد الجميع، أي الدولة، أصبحت هي أهم أسباب الحروب. فالحروب الأهلية تندلع على الدولة، كما أن الحروب الإقليمية والعالمية تندلع بين الدول التي تحول البشر من أناس عاديين إلى أعداء يقتل بعضهم بعضاً من أجل هذه الدولة أو تلك.
 
وإذا كانت أوروبا تمارس الحرب منذ زمن طويل دون أن تعرفه حتى كتب ميكافيللي (فن الحرب)، فإن الشرق كان يمارس هذا الفن ويعرفه منذ القرن السادس قبل الميلاد على أقل تقدير، وذلك عندما انتهى الجنرال الصيني صن تزو، في القرن السادس قبل الميلاد، من وضع خلاصة خبرته العسكرية في الحروب واستراتيجياتها وتكتيكاتها في كتابه المعروف “فن الحرب”، والذي كان بمثابة دليل عملي لشن الحروب التي لا تستغني عنها أية دولة؛ فالحرب فن بالغ الأهمية للدولة كما يقول، بل “إنها قضيّة حياة أو موت، وهي طريقٌ إمّا للبقاء أو للاندثار”.
 
ولم يكن الشرق العربي بمنأى عن هذا النوع من التنظيرات. وعلى الرغم من تحذير شاعرهم القديم (زهير بن أبي سلمى) من ضراوة الحرب وعواقبها المدمّرة التي هم أدرى بها:
 
وَما الحَربُ إِلّا ما عَلِمتُم وَذُقتُمُ    وَما هُوَ عَنها بِالحَديثِ المُرَجَّمِ
 
مَتى تَبعَثوها تَبعَثوها ذَميمَةً      وَتَضرَ إِذا ضَرَّيتُموها فَتَضرَمِ
 
فَتَعرُكُّمُ عَركَ الرَحى بِثِفالِها       وَتَلقَح كِشافاً ثُمَّ تَحمِل فَتُتئِمِ
 
إلا أن حروب العرب لم تنقطع طوال تاريخهم، واستمرت وكأنها ظلهم الثقيل الذي لم يكن يفارقهم. وبالنسبة  لابن خلدون فإن الحرب، كما العدوان والظلم، مسألة طبيعية؛ لأن الله “ركّب في طبائع البشر الخير والشر”، إلا أن “الشر أقرب الخلال إليه”؛ ولهذا فإن “الظلم والعدوان” من أخلاق البشر وطبائعهم المركبة فيهم طبيعياً، فـ”الظلم من شيم النفوس” كما قال المتنبي.
 
هنا لا يختلف ابن خلدون عن توماس هوبز في تفسيره لأصل الحاجة إلى الدولة والملك. فالبشر أقرب إلى الشر والظلم وعدوان بعضهم على بعض، ومن هنا جاءت الحاجة إلى الدولة لكبح هذا العدوان بالقهر والسلطان. كما أن إقامة الملك والسلطان لا تتم إلا بالقتال “لما في طبائع البشر من الاستعصاء”. وينسحب هذا التفسير على تأصيل الحرب؛ لأن الحرب ملازمة للبشر كما لو كانت طبعاً مركباً فيهم، وأنها “لم تزل واقعة في الخليقة منذ برأها الله”، وعلى هذا فإن الحرب “أمر طبيعي في البشر لم تخلو منه أمة ولا جيل”.
 
أما عن أسباب هذه النزعة المتأصلة في الحروب وأصل انتقام بعض البشر من بعضٍ، فإن ابن خلدون يرجعها لأربعة أسباب، هي “إما غيرة ومنافسة، وإما عدوان، وإما غضب لله ولدينه، وإما غضب للمُلك وسعي لتمهيده”. ويخلص ابن خلدون إلى تصنيف الحروب إلى صنفين بناء على دوافعها وغاياتها: حروب بغي وفتنه وهي الناتجة عن الغيرة والمنافسة والعدوان، وحروب جهاد وعدل وهي الناتجة عن الجهاد في سبيل الله أو حروب الدول ضد الخارجين والمتمردين عليها.
 
تندرج كل هذه الأسماء وتنظيراتها فيما يسمى، اليوم، بالواقعية السياسية الكلاسيكية. وهي، في الحقيقة، تعزو فساد السلوك الإنساني إلى عاملين أساسيين: الأول هو طبيعتنا البشرية الشريرة، حيث يتم، هنا، التأكيد على أن الأسباب العميقة للحروب، ولمختلف السلوكيات البشرية العدوانية، إنما تكمن في الطبيعة البشرية المحكومة بغريزة الظلم والعدوان، وأن هذه الغريزة يتعذر استئصالها واقتلاعها من جذورها. والثاني هو طبيعة المواقف والظروف المحيطة بالأفراد والجماعات، والتي يكون لها الدور الأكبر في تكوين السلوك البشري ونزعات العدوان، فظروف الحكم وإقامة الدولة واستقرارها موقف لا يستقيم، في نظرهم، إلا بالقوة والعنف أو التهديد بهما على الأقل. وجرى العرف، في علم النفس السياسي والاجتماعي، على تسمية المقاربة الأولى باسم المقاربة النزوعية dispositionism، والثانية بإسم المقاربة الموقفية situationism.
 
أما بالنسبة إلى أرسطو، في القرن الرابع قبل الميلاد، فإن الحرب قد تكون “وسيلة طبيعية للكسب”، فمثلها مثل صيد الحيوانات، فكما أن الحيوانات خلقت للإنسان، فكذلك خلقت الطبيعة لهذا الإنسان المتفرد “بشراً ليطيعوه”، فإذا عصوا ولم يطيعوا، أي خالفوا طبيعتهم، فإن الحرب تكون وسيلة طبيعية لإعادة الأوضاع إلى طبيعتها الأولى! وعلى الرغم من المضمون العنصري الذي يتحكم في تفكير أرسطو هنا، إلا أن أرسطو على قناعة بأن الحرب لا يمكن أن تكون غاية بذاتها، بل السلام هو غاية الحرب، فكما أن “الراحة هي غاية العمل”، فكذلك يكون “السلام هو الغاية من الحرب”. وربما كان أرسطو لا يختلف مع الآخرين في تفسير سبب الحرب وإرجاعها إلى الغريزة الشريرة وشهوة الإنسان الخبيثة، إلا أنه يختلف عنهم في تعويله الكبير على الفضائل ودورها في القضاء على فساد الإنسان، فالإنسان بلا فضائل إنسان فاسد وشرير وخبيث، إلا أن الفضائل كفيلة بإنقاذ الإنسان من هذا المصير. الأمر الذي يعني أنه مآل غير حتمي ولا نهائي، وأن هناك أمل في الخلاص.