الدستور
صرنا نتعاطى مع التفكير كما نتعاطى مع كوب قهوة تُحضَّر بضغطة زر. يأتينا الجواب جاهزا، حارا، دون نكهة تعب، ولا أثر حيرة؛ فنبتسم ظانّين أنّ الفكرة من بنات عقولنا وشجوننا، لا أنّها هبطت إلينا هبوط إشعار على شاشة هاتف. يا لسخاء عصرنا، ويا لبخلنا على عقولنا.
لم يمش تطورنا بخط مستقيم كما زعمنا، بل دار بنا كدائرة تُعيدنا إلى نقطة العجز نفسها، ولكن بثوب رقميّ لامع. صنعنا آلة لتخدمنا، ثم أسلمناها قيادة يومنا فصارت تفكّر وتكتب وترتب عنا حياتنا، بينما نقف نتأمّلها بإعجاب أب بابنه الذي نسي المشي لأن أحدا لم يسمح له أن يتعثر.
صار السؤال جهدا نخشاه. فكل شيء متاح، المعلومة، الخطة، النص، وحتى الشعور في المناسبات. نعيش كأننا لاعبون نحرك شخصياتنا على شاشة، فيما أرواحنا جالسة في مقعد لا يتحرك منه إلا إصبع واحد. نحتفي بالسهولة ونسميها تقدما، وننسى أنّ الطريق الأقصر لا يصنع معنى دائما، بل يمنح وصولا أسرع إلى الخواء.
نكتب أكثر من أي زمن، ونقرأ أقل من أي وقت، ونفقد القدرة على التذكّر مثل ثوب بار لونه لكثرة الغسيل. نملأ رؤوسنا بعبارات براقة كاللافتات الدعائية، لكنها لا تضيء حين تحتاج أرواحنا إلى مصباح صغير في العتمة. نردد جُملا جميلة، ثم نفقد معناها بعد دقيقة من إغلاق أجهزتنا.
العقل كأي عضلة في الإنسان، يضعف إن لم يستخدم. ومع ذلك بتنا نخاف الإرهاق. نريد نصوصا تلمع بلا عرق، وأفكارًا جاهزة بلا حيرة، وحكمة بلا وجع. نريد أن نهرب من التأمل لأنه يطيل وحدتنا مع أنفسنا، وهذه أصعب العزلات. كأننا نحفر قبرا لوعينا ونكتب على شاهدته: «هنا يرقد من سلّم عقله في آخر تحديث».
نريد أن تبقى شرارة صغيرة تقاوم، فالروح مهما أُشبعت بالجاهز لا ترتوي منه. تحتاج دوما إلى محاولة، إلى خطأ، إلى سؤال لا جواب له، إلى جملة نكتبها ونمحو نصفها لأننا لم نصدقها بما يكفي.
العقل الذي ينام طويلا على كتف آلة إن استيقظ فلربما لن يعرف صوته. والوعي المستعار مهما صار متينا قد يفقد قدرته على الحلم. ومع ذلك، ما زلت أؤمن أنّ بيننا من يفكّر ببطء، يتعثّر ربما، لكنه يفكّر. تلك العقول وحدها ستدلّنا على أنفسنا إذا ما انقطع ذلك الضوء فجأة، وعرفنا العتمة الكثيفة التي أغرقتنا.