عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    05-Nov-2020

فكرتان عن روبرت فيسك، والصحافة..!*علاء الدين أبو زينة

 الغد

عندما أرى صحفيّا يدعي لنفسه أهمية لا يملكها، عادة ما أقول: “يظن نفسه روبرت فيسك”! وقد لا يكون فيسك أهمّ صحفيّ في العالَم، لكنّه من بين الأهمّ قطعاً. ويعرفه المتابعون بسبب مهنيته، وانفراداته الصحفية، وذكائه الاجتماعي، ولغته، وعمق تعليقاته وقدرته التحليلية، ولأنه يغطّي أحداث منطقة غزيرة الأحداث مثل الشرق الأوسط. ولم يكن يعمل في بلد واحد كمعظم المراسلين، وإنما ينتقل ليكتب من موقع الحدث أينما كان في الإقليم، من لبنان إلى العراق ومصر، وبعيداً حتى أفغانستان.
رحل فيسك عن الدنيا هذا الأسبوع. وقد شعرتُ شخصياً بنوع من الفقدان. كنتُ، بعد كل شيء، أختار من تقاريره وتعليقاته للترجمة والنشر، لأن فيها ما يُنير ويستحق القراءة. لكنّ اختيار ترجمة مادة لفيسك انطوى غالباً على اختيار العناء. فهو لا يكتب بلغة مباشرة تقريرية مثل معظم المراسلين، وإنما يجيء نصه في كثير من المرات مليئاً بالتوريات، والمجازات والتمثيلات والإحالات إلى مرجعيات ومفهومات من كل نوع. ولذلك، تتطلب ترجمته البحث وحك الرأس واستنفار الأدوات التأويلية. وعلى الطريق، تتكون بينك وبينه علاقة لأنه يستوقفك كثيراً ولا يجعل مرورك به سهلاً لا يُلحظ. وفي وقوفك عنده، تتعرّف إليه، أو تحاول، علك تخمّن فكرته وتستبطن نصه وتعيد إنتاجه قريباً مما هو.
لماذا يكتب هكذا؟ ربما لأنّ لديه الملَكة والأدوات، فلِم لا يكون نصُّه جميلاً؟ وربما لذلك علاقة بالبراغماتية. إنه يعمل في مناطق جيوسياسية حساسة، حيث يمكن أن يتسبب إغضابك السلطات في إعاقة عملك، ببساطة. لذلك يكتب بـ”حبر سري”، ويموّه فكرته بالمفردات بحيث تعفيه احتمالات التأويل من حدة الاختيار. وهو يُعد معارضاً للولايات المتحدة، خاصة تدخلاتها في الشرق الأوسط، ومتعاطفاً مع القضية الفلسطينية. ويعده بعضهم مؤيداً للحكومة السورية. لكن له طريقة في عرض ذلك وكأنه ميول أكثر من كونه مواقف حادة الأطراف، وهو ما أتاح التشكيك في حقيقته.
لكنّ ذلك جعل السوريين يسمحون له بمرافقة عمليات الجيش والكتابة من الجبهة. وجعل الأميركان وجماعة الكيان يسمحون له بالعمل في أي مكان، وإجراء المقابلات والحصول على التصريحات الحصرية من أي مستوى. وبدا أسلوب عمله وتغطياته مقبولاً بطريقة ما لكل من يريدُ أن يوصل فكرة –بالاستفادة من شهرته- من الأطراف المتعارضة، بما في ذلك أسامة بن لادن، على سبيل المثال، الذي أجرى معه فيسك ثلاث مقابلات بطلب من الأول وتسهيل منه.
يمكن قول الكثير عن أسلوبيات وحيل روبرت فيسك، لو كانت المساحة أوسع. لكن في البال فكرة ليست عن فيسك بالتحديد –ولو أنها ليست منفصلة عنه. إنها عن الصحيفة التي يعمل معها. ففي نهاية المطاف، لن يذهب الصحفي بعيداً إذا لم تكُن في ظهره صحيفة تريد أن تذهب بعيداً. وعندما يدور الحديث عن نوعية المحتوى الصحفي في أي مكان، سيأتي روبرت فيسك وصحيفته الأخيرة، الإندبندنت، للنجدة وعرض نموذجهما للفكر الصحفي.
الذي يرى عمل فيسك، سيقدّر ما تصنعه له صحيفته لتمكينه من فعل ما يفعل. على سبيل المثال، يمكن تصوّر ما أنفقته الصحيفة على رحلاته إلى أفغانستان لمقابلة بن لادن، أو لتغطية حرب العراق، أو الربيع المصري، أو حروب الكيان. هناك مصاريف الإقامة، والتنقل واللوجستيات والمستلزمات، والاتصالات. ومن المؤكد أن الصحيفة تبيع أكثر يوم نشر مقابلة مع بن لادن. لكن الأهم هو تأسيس الجدارة الدائمة للصحيفة كواحدة فيها شيء ليس عند الآخرين. من هنا يأتي القراء، فالمعلِنون. ومن هنا يصبح صحفيٌّ يعمل لديها مقصداً للذين يريدون إيصال فكرتهم –ومن هنا يتكامل تميز الصحفي والصحيفة ليصبحا سلطة.
ثمة بالتأكيد مساحات التعبير التي تعمل فيها صحيفة فيسك وحريته في اختيار الطريقة واللغة والفكرة. لكن طريقتها في الاستثمار وحساب الأرباح والخسائر جديرة بالتأمل. ففي النهاية، لا يمكن توقّع تغطيات مميزة للأحداث، أو انتقالات شاقة لإجراء مقابلات وجلب معلومات، من صحفي لا يملك أجرة الطريق. ولا بد أن تقريراً صحفياً أصلياً أو تعليقاً من بضع مئات من الكلمات، لكنه يتكلف مئات أو آلاف الدولارات، يعدّه صحفي ذكي موثوق به، سيستعيد تكلفته، ويربح.
الافتقار إلى هذه العلاقة التبادلية الحتمية بين الصحفي المبدع والصحيفة المبدعة، يشيع فقط نموذج الذي “يظن نفسه روبرت فيسك” -ولو أنه قد ينطوي على الإمكانية.