عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    06-Sep-2024

مشاريع في ترجمة النقد الأدبي الصيني

 القدس العربي-نادية هناوي

حقق علم السرد ما بعد الكلاسيكي تقدما نوعيا ملحوظا في النظرية الأدبية، وصارت مخابر البحث العلمي تستقطب الخبرات وتوفر الإمكانيات وتستثمر الطاقات من أجل إحراز قصب سبق في ميادين هذا العلم، التي هي شاملة في تنوع تخصصاتها وانفتاح مجالات دراستها جغرافيا وثقافيا. وأعطى الشمول والانفتاح لهذا العلم خصوصية، وجعلاه يحقق هذه الإنجازات البحثية التي تضاهي سابقه «علم السرد الكلاسيكي» بصورتيه البنيوية وما بعد البنيوية. فلم يعد الابتكار النظري رهنا بالغرب الأوروبي، بل كذلك بالأمريكي الشمالي، الذي غدا مهيمنا على مراكز بحثية جديدة وفاعلة عالميا من منطلق التعددية والشراكة البحثية، في مشاريع نقدية تتخذ من اللغة الإنكليزية أداة موحدة لابتكاراتها. وإذ يساهم هذا الاشتراك بطبيعة الحال في تمكين الباحث غير الغربي من توصيل نتاجاته المعرفية إلى العالم، مضيفا بذلك جديدا إلى الدراسات النقدية، بعد أن كان منغلقا عليها في حدود أدبه المحلي ولغته القومية، فإنه بالمقابل لا يعني تفتيتا للهيمنة الثقافية الغربية، وإنما هي محاولة باتجاه اختراق هذه الهيمنة عبر توسيع مجالات النفوذ فيها أو فتح منافذ جديدة داخلها.
وإذ تختلف جنسيات الباحثين المساهمين في مشاريع علم السرد ما بعد الكلاسيكي، فإن للباحثين الصينيين غلبة واضحة في هذا المجال، بسبب ما في أدبهم القديم والحديث والمعاصر من ثراء فني وتجارب أدبية كثيرة، تفرض على مخابر البحث الغربية الشراكة معها ضمن مشاريع بحثية مختلفة. ومنها مشروع «سلسلة آفاق الصين The China Perspectives series « وهو مشروع ترجمة الأعمال الصينية في مجالات العلوم الإنسانية والاجتماعية، فضلا عن التعليم والإعلام ونشرها باللغة الإنكليزية كي تكون في متناول أيدي القراء والباحثين على مستوى العالم، مقدمة لهم رؤى واضحة حول واقع النقد الأدبي في الصين.
 
ومن الكتب التي شملها هذا المشروع كتاب (السرد غير الطبيعي العابر للحدود) تأليف بيو شانغ و(سبع محاضرات عن «Renjian Cihua» لوانغ قووي) تأليف فلورنس تشيا يينغ يه و(دليل إلى شين تسونغون) تأليف سيهي تشين. ويأتي ضمن هذا المشروع أيضا كتاب (الأدب الصيني في مئة عام من الترجمة 1919 إلى 2019) الصادر بطبعته الإنكليزية 2021 عن روتلدج، بتحرير ليا جربر ولينتاو كي. وهما باحثان صينيان يعملان في برنامج الدراسات الترجمية، قدما في هذا الكتاب لمحات وصورا تسلط الضوء على الحركة الترجمية للأدب الصيني خلال مئة عام. والبغية هي الانتفاع الأكاديمي من أجواء العولمة، في حث الصينيين على ترجمة أدبهم وثقافتهم، متجاوزين التناقضات ومحققين التواصل والتقارب مع غيرهم تحاورا ومناقشات.
ويتألف الكتاب من ثلاثة أجزاء، تسبقها مقدمة بعنوان (تأملات نظرية وتاريخية في الأرشيف الترجمي) ومن الموضوعات المبحوثة فيه: ما مرّ به الأدب الصيني من مراحل هي بمثابة ثورة ثقافية في تاريخ الصين وحركة الترجمة واتجاهاتها في الكتابة والنشر، وأهم المساهمين فيها، والأعمال التي ترجموها، وطرائق تفاعل القراء مع هذه الأعمال، ودور أدب الهجرة في نقل الأدب الصيني إلى اللغة الإنكليزية. وشارك في تأليف الجزء الأول من هذا الكتاب باحثون من جنسيات مختلفة. منهم لينا وفرليا بدراسة عنوانها (الترجمة غير الاحترافية للأدب) وكتب جوناثان ستالنك عن (أثر الإنترنت في ترجمة الأدب الصيني) وبوني دوجال عن (الحدس والعفوية في الترجمة الأدبية الصوتية المتعددة) وجيانغ تونغ عن (فرشة نقدية لسلسلة كتب الباندا» السير نحو العالم» والأدب الصيني). أما الجزء الثاني فشارك في كتابته أربعة باحثين هم: نيكولاس خوزيه ببحث (ترجمة مسرحية سيدة التيار الثمين) ولو شون بدراسة وصفية حول مجموعة قصص قصيرة للناطقين بالإنكليزية ترجمها يانغ شياني وكلاديس يا نغ وهونجون تشن، وكتب دونغ لكيا شيتغ (دراسة لمنهجيات الترجمة المتناقضة: استراتجيات أدب هونغ كونغ والترجمة الذاتية) وكتب ليو شاو (الترجمة الإنكليزية لرواية لعبة الحياة والموت للروائي الصيني مو يان من منظور علم السرد المعرفي).
 
وابتدأ هذه الدراسة بالتعريف بعلم السرد المعرفي كأحد ثلاثة فروع مهمة في علم السرد ما بعد الكلاسيكي، مؤكدا أن الناقد الغربي مانفريد يان اقترح هذه التسمية عام 1997 لكن البداية الحقيقية كانت بكتاب (نحو علم السرد الطبيعي) 1996 لمونيكا فلودرنك، ورأى الباحث شاو أن علم السرد المعرفي يعتمد على منهج التعدد الاختصاصي، كونه يوفر الأساس النظري لتحليل السرديات عبر دمج مفاهيم علم السرد الكلاسيكي، بمفاهيم أخرى مستقاة من مختلف العلوم الإنسانية. والغاية استكشاف العلاقة بين السرد والعقل ودور الإدراك في الفهم السردي والطرق التي بها يتفاعل القراء مع عوالم القص story world ويستجيبون لها بفاعلية. ومن الكتب التي تندرج في مشروع «سلسلة آفاق الصين» كتاب (الكلمات المفاتيح في النقد الأدبي الغربي والنقد الصيني المعاصر) بتحرير هيو يامين وترجمه فانغ شينغفو إلى اللغة الإنكليزية وصدر عن روتلدج عام 2021. ويقع في مجلدين كبيرين. تدور موضوعاتهما حول حقبة الإصلاح والانفتاح التي عرفتها الصين منذ عام 1978، وفيها أخذ النقد الأدبي الغربي يزدهر ويكتسب شعبية داخل المجتمع الأكاديمي الصيني. وضم الكتاب تسعة من مفاهيم النظرية الأدبية الغربية، أفاد منها طلاب الأدب والباحثون الصينيون. اشتمل المجلد الأول على خمسة مفاهيم هي (الخطاب، النص، السرد، الأدبية، السخرية) واستكمل المجلد الثاني الأربعة الأخرى وهي (الاستعارة، الآخر، الأيديولوجيا، الجسد).
 
وتتبلور الغاية من وراء دراسة هذه المفاهيم لا في الجمع بين معارف وثقافات متنوعة، بل أيضا في تأمل تاريخ النقد الأدبي، وما جرى فيه من ثورة في التخصص تمثلت في بناء منظور بيني لطبيعة النقد الأدبي، فيه كان انتقال المفاهيم ما بين اللغات المختلفة أمرا معتادا. وبعض المفاهيم تنتمي في الأصل إلى تخصصات أخرى، ثم لاحقا استعارها النقد الأدبي، وهذا ما شكل تحديا للنقد الأدبي التقليدي. ومن ذلك مفهوم «السرد» الذي يدخل في مجالات متنوعة، وتشترك فيه تخصصات مختلفة، كما أن مفهوم «الآخر» يدخل في الفلسفة والتحليل النفسي، ودراسات النوع الاجتماعي وما بعد الاستعمار وما بعد الحداثة، وما إلى ذلك. أما مفهوم «الاستعارة» فيخرق الحدود بين العلوم الإنسانية ليكون مفهوما بينيا، في حين يوظف مفهوم «الجسد» مباشرة في حياتنا اليومية. وكثيرة هي المصطلحات التي لا تقتصر في عملها على مجال أحادي ثابت، بل هي تتنقل بحرية ما بين مختلف التخصصات. ويقود هذا الانتقال الحر للمفاهيم لا إلى التعدد فحسب، بل إلى تعزيز التفاعل وتوسيع وربما إلغاء الحدود بين النقد الأدبي وغيره من العلوم الإنسانية. فما عاد النقد الأدبي تخصصا مستقلاً تماما، بل حدوده غامضة إلى درجة أنه من المتعذر رسم صورة لطبيعة تداخلاته وارتباطاته مع غيره من التخصصات الأخرى.
 
ما توفره «مجالات التاريخ» الأربعة أعلاه أنها تساعد في دمج أساليب البحث وتعدد المنظورات والتخصصات وبالشكل الذي يؤدي إلى فهم جديد لطبيعة النقد الأدبي بوصفه حقلا معرفيا مفتوحا ومتغيرا في الزمن والمكان، غير مكتمل على الدوام.
 
وقد بذلت المحررة هيو يامين جهدا كبيرا في إعداد هذا الكتاب، وهي أستاذة متخصصة في النقد الأدبي والسرديات والأدب المقارن، تعمل في كلية اللغة والأدب الصيني في جامعة سنترال جاينا نورمال وتشغل منصب رئيسة تحرير مجلة «دراسات الأدب الأجنبي». وأشارت في مقدمة الكتاب إلى أسباب دراسة الكلمات المفاتيح فقالت: (تشكل المفاهيم أساس النقد الأدبي، فهي بمثابة كلمات مفتاحية ذات سمات مميزة ولها إسهام نظري. وما كلمة «مفتاح» سوى الجوهر أو اللب من أي إنتاج، أو اشتقاق في مصطلحات النقد الأدبي الغربي على اختلاف الأزمنة والأمكنة، وسيساعد هذا الكتاب القراء الصينيين في فهم المفاهيم المفتاحية وتطبيقها في النقد الأدبي الغربي، فضلا عن دمج النقد الأدبي الصيني والغربي وبناء نقد أدبي معاصر).
 
وتؤكد يامين أنه منذ خمسينيات القرن التاسع عشر، ارتبط تطور النقد الأدبي الصيني الحديث، ارتباطا وثيقا بالنقد الأدبي الغربي. وجرت عمليات تداخل وتناص وأقلمة بعض الكلمات المفتاحية من النقد الأدبي الغربي ودخلت تدريجيا في النقد الأدبي الصيني، وأصبحت مكونات لا غنى عنها في أشكاله المعاصرة. وعلى الرغم من ذلك، فإن ثمة إشكاليات عدة تتعلق بالترجمة في فهم المصطلحات الغربية وتطبيقها في الأبحاث الأكاديمية الصينية نظرا للفروق اللغوية التي تولد تفسيرات غامضة تؤثر في دقة التوظيف، خاصة عند استعمالها في تخصصات معينة. وتضرب يامين على هذه الإشكالية بالمثل الصيني: «أولئك الذين في الظلام لا يمكنهم إضاءة الطريق للآخرين». في إشارة إلى ما للترجمة من دور في بناء النقد الأدبي الصيني المعاصر وتطويره.
وأخذ بعض النقاد الصينيين والأجانب في النصف الثاني من القرن العشرين يدركون حجم هذه الإشكالية، وأصبحت المناقشات حول المفاهيم الأساسية أو الكلمات المفتاحية شائعة للغاية. وعدت يامين الناقد الإنكليزي ريموند ويليامز، رائدا في هذا المجال بكتابه (الكلمات المفاتيح: مفردات الثقافة والمجتمع) 1976. وتُرجم إلى اللغة العربية ضمن مشروع الترجمة القومي بعنوان فرعي هو (معجم ثقافي ومجتمعي) 2005.
أما لماذا اقتصر كتاب (الكلمات المفاتيح في النقد الأدبي الغربي والنقد الصيني المعاصر) بمجلديه على تسعة مفاهيم فحسب، فتعلله المحررة بضيق المساحة، إذ من المستحيل على كتاب واحد تغطية جميع المفاهيم بتفصيل تاريخي لنشوئها وتتبع منهجية تطورها. كما يصعب على كتاب أن يركز على مفهوم مفتاحي واحد فقط فيقدم للقراء شجرة أنساب النقد الأدبي أو يكشف عن علاقته بالمصطلحات الأخرى، فضلا عن اختلاف الأهداف والخلفيات الأكاديمية التي تجعل المحررين يقتصرون على مفاهيم نقدية بعينها، كي يتمكنوا من الإيفاء بعمليات فحصها وتباين توظيفها في النقد الصيني.
 
وتحدد يامين ثلاثة أهداف للكتاب، الهدف الأول استكشاف الأصول التاريخية للمفاهيم وطبيعة الصلة ما بين التخصصات في دراسة النقد الأدبي الغربي لها. والهدف الثاني البحث في معانيها الأصلية، والتغيرات اللاحقة في تفسيراتها، حسب سياقات الثقافة الصينية، مع قياس مدى ملاءمة تطبيقاتها في النقد الأدبي الصيني. والهدف الثالث الوقوف على بعض المفاهيم الجديدة، وإعادة تفسير القديم منها من أجل تعزيز بعض الآراء النظرية والنقدية، وبناء مرجعيات بناءة للنقد الأدبي الصيني المعاصر.
وتقوم الآلية الإجرائية في تأليف هذا الكتاب على الفحص الأكاديمي للمراجع المساعدة، في جمع وجهات النظر المختلفة حول كل مفهوم من المفاهيم التسعة المنتخبة من ناحية التداخل والتباين والتشابه، ثم البحث في أثر النقد الأدبي الغربي في القرن العشرين في النقد الأدبي الصيني المعاصر، مع إجراء مسح منهجي نقدي للكشف عن كيفية أقلمة مفاهيم النظريات النقدية وتكاملها في ممارسة النقد الأدبي الصيني. علاوة على ذلك، فإن المفاهيم تعكس طابعا تأثيريا وتنبه النقد الأدبي الصيني إلى التحدي في مجال انفتاح التقاليد الأدبية الصينية، وتنوع أساليب البحث. ونلمس في مناقشة بعض المفاهيم نوعا من الحوار المعرفي ما بين النقدين الأدبي الغربي والصيني، فيه استيعاب ثقافي ووعي نظري بأهمية تعزيز مستقبل النقد الأدبي الصيني.
 
وأفادت يامين من مفهوم «مجال التاريخhistory field « (وهو مفهوم سوسيولوجي طرحه بورديو، يشير بشكل رئيس إلى المساحات المختلفة ولكن المستقلة نسبيا في حياتنا الاجتماعية والعلاقة الداخلية في ما بينها). وعن ذلك تقول يامين: (نحن نستعير هذا المفهوم، ونضيف إليه محتويات تاريخية، فنحوله إلى صيغة الجمع «مجالات التاريخ» العائمة في أزمنة ومساحات متنوعة، ونعتبره نموذجًا مهمًا لاستكشاف تطور المفاهيم المفتاحية. وعلى الرغم من أن هذه المفاهيم تظهر في حقبة تاريخية محددة، فإن أي مفهوم أو اتجاه لا يُخلق بلا جذور، أو من دون سابق وتبعية. فتتجلى الدلالة حسب سياقات ثقافية وتاريخية مختلفة). وقسمت «مجالات التاريخ» أربعة أقسام مترابطة: الأول هو المجال الأولي ويعني المكان الذي تظهر فيه الكلمات منذ اليونان القديمة، حيث بدأ البحث في المعاني الأولية. والمجال الثاني مجال التكوين ويعني البيئة الاجتماعية والثقافية المحددة التي فيها أخذت المفاهيم المفتاحية صيغتها المصطلحية في النقد الأدبي، وغدت ذات شيوع في القرن العشرين. والمجال الثالث هو المجال الممتد، ويعني اتساع نطاق هذه المفاهيم وبمرور الوقت، يصبح النظر إليها بوجهات نظر مختلفة، تمثلها مدارس النقد الأدبي. والمجال الرابع هو المجال المحلي، أي مجال المتلقي الذي يتعامل بشكل رئيس مع النقد الأدبي الغربي ونظيره الصيني المعاصر. بالمقارنة مع المجالات الثلاثة السابقة، يتغير المجال الرابع من حيث الفضاء والموضوع. فيرتبط ظهور المفاهيم المفتاحية بالسياسة والثقافة والفلسفة والاتجاهات الأدبية المعروفة في المجتمع الغربي، ما يعكس بنائها النظري وممارساتها في حل مشكلاتها الخاصة. وباستقدام المفاهيم إلى الصين، تنشأ فوارق في المجالات التي تختلف في الصين عنها في الغرب. وفي الوقت نفسه، هناك سياقات الترجمة والتفسير والتطبيق التي يفرضها المجال المحلي.
ما توفره «مجالات التاريخ» الأربعة أعلاه أنها تساعد في دمج أساليب البحث وتعدد المنظورات والتخصصات وبالشكل الذي يؤدي إلى فهم جديد لطبيعة النقد الأدبي بوصفه حقلا معرفيا مفتوحا ومتغيرا في الزمن والمكان، غير مكتمل على الدوام. أما مرجعيات يامين التي عليها اعتمدت في كتابة هذه المقدمة فتتمثل في كتاب (دعوة إلى علم الاجتماع التأملي) لبيير بورديو وواكونت لويس، وكتاب (ما هي الفلسفة) لجيل دولوز وغاتاري فليكس وكتاب (ضد دو هرنغ) لفريدريك أنجلز الذي نقلت عنه قوله: (تعريفنا للحياة غير كافٍ بطبيعته من وجهة نظر علمية.. وللحصول على معرفة شاملة لماهية الحياة، علينا أن نمر بكل الأشكال التي تتمظهر بها من الأدنى إلى الأعلى).
 
كاتبة عراقية