عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    11-Oct-2025

فرنشيسكا آلبانيزي... مقرّرة أممية تحدت منظومة الصمت الدولي تجاه غزة

 الغد

ثمّة محطات في التاريخ، يمكن لصوت واحد فحسب، بفعل قوة ثباته وانسجامه مع نفسه ومع الحق، أن يهزّ دعائم بنية الإفلات من العقاب التي يرزح العالم تحتها.
فرنشيسكا آلبانيزي هي أحد هذه الأصوات التي منذ سنوات تتحدّى منظومة الصمت الدولية، وتقارع بالحجج الدامغة والقانون الحسابات الدبلوماسية الدقيقة، وما تنطوي عليه من مناورات تسويفية. يرتفع صوت هذه المحامية الإيطالية على الساحة الدولية كحالة أخلاقية «شاذة» منذ أن تولت مهام مقرّرة الأمم المتحدة الخاصة حول حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، حيث لم تتوقّف عن تسمية الانتهاكات بمسمياتها، وإدانة المرتكبين والمتواطئين والحضّ على ملاحقتهم ومحاسبتهم أمام القضاء.
 
فرانشيسكا آلبانيزي هي مصدر إحراج للحكومات التي تفضّل أن تغضّ الطرف عن الانتهاكات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وأيضاً لتلك التي بنت سياساتها الخارجية على تجاهل الأوضاع المأساوية التي يعيشها الفلسطينيون منذ عقود في الأراضي المحتلة.
 
 
«عندما ينام العالم»
 
 
«عندما ينام العالم: حكايات فلسطين وجراحها» هو الكتاب الأخير لمقررة الأمم المتحدة الخاصة حول حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة فرنشيسكا البانيزي.
 
 
الكتاب كناية عن سردية رائعة، سياسية واجتماعية حول فلسطين، من موقع التمرد على الوضع القائم وعلى صمت الأسرة الدولية وتواطؤها حيال ما يحصل هناك. الكتاب استقبلته أوساط الباحثين الإيطاليين بحفاوة بالغة لما رأت فيه من «مدخل أساسي لفهم القضية الفلسطينية، بأبعادها التاريخية وواقعها الحالي، وموقعها المركزي في أحداث الشرق الأوسط». ومنذ صدور الكتاب في أواخر أغسطس (آب) الماضي - وأصبح الآن في طبعته الثالثة - أفادت دار النشر «ريزولي» أنها أوشكت على النفاد. وبالمناسبة، اختارت آلبانيزي لغلافه لوحة الفنان الفلسطيني مالك عمّار «الليلة الأخيرة في غزة»، الذي خصّص له أيضاً فصلاً كاملاً من عملها.
 
 
النشأة والدراسة
 
 
ولدت فرنشيسكا باولا آلبانيزي يوم 30 مارس (آذار) من عام 1977 في مدينة أريانو أربينو الصغيرة بإقليم كامبانيا في جنوب إيطاليا. وهي متزوجة من مصرفي أممي وأم لولدين.
 
 
ولقد تلقت آلبانيزي تعليمها الجامعي في جامعة بيزا الإيطالية العريقة حيث نالت شهادة الدكتوراه في القانون الدولي. ثم تابعت تخصصها في مجال حقوق الإنسان، وحصلت على الماجستير في حقوق الإنسان من معهد الدراسات الشرقية والأفريقية (سواس) في جامعة لندن، ثم أشرفت على بحوث حول حقوق اللاجئين في جامعة أمستردام.
 
 
أيضاً حصلت آلبانيزي على منحة من معهد دراسات الهجرة الدولية، التابع لجامعة جورجتاون في العاصمة الأميركية واشنطن، وأصبحت كبيرة المستشارين في منظمة النهضة العربية للديمقراطية والتنمية، وباحثة في المعهد الدولي للدراسات الاجتماعية التابع لجامعة روتردام بهولندا. وفي عام 2020، صدرت لها عن جامعة أكسفورد الطبعة الثانية للكتاب المرجع «اللاجئون الفلسطينيون في القانون الدولي».
 
 
مسيرة مهنية لافتة
 
 
بعدها شغلت آلبانيزي لسنوات منصب خبيرة لدى الأمم المتحدة مع المفوضية العليا لحقوق الإنسان، وحاضرت في العديد من الجامعات، بينها الجامعة الأميركية في بيروت. وعام 2022، عيّنت مقررة خاصة لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، خلفاً للكندي مايكل لينك.
 
 
ومنذ ذلك الحين، تعرّضت المقررة لحملة شعواء من إسرائيل ومؤيديها، طالبت بإقالتها من منصبها. إذ كشفت عن أنها تلقّت تهديدات عديدة منذ تولت مهامها، وخاصةً بعد نشرها التقرير الذي يحمل عنوان «من اقتصاد الاحتلال إلى اقتصاد الإبادة»، الذي يكشف المصالح الاقتصادية وراء الاحتلال الإسرائيلي عموماً، وحرب غزة خاصة، والشركات التي تقف وراءها.
 
 
ثم في 5 يوليو (تموز) الفائت، صدر بيان عن وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو يتهم فيه آلبانيزي بـ«معاداة السامية» و«دعم الإرهاب» و«تحقير» الولايات المتحدة وإسرائيل تبريراً لمنعها من دخول الأراضي الأميركية. بيد أن الأمم المتحدة أعلنت دعمها لها وجدّدت ولايتها، كما أعلنت «منظمة العفو الدولية» تأييدها لها ورفضها العقوبات الأميركية.
 
 
تقرير «تشريح الإبادة»
 
 
في تقريرها الأخير الذي قدّمته تحت عنوان «تشريح إبادة» أمام مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، عرضت آلبانيزي بأدقّ التفاصيل والحجج القانونية ما يتعرض له الشعب الفلسطيني على يد قوات الاحتلال الإسرائيلية. وأكّدت أنه، استناداً لمعاهدة منع جريمة الإبادة ومعاقبتها الموقعة عام 1948، توجد مبرّرات كافية للقول إن حكومة بنيامين نتنياهو ترتكب «أعمال إبادة» في قطاع غزة، داعمةً استنتاجاتها بالشهادات والبراهين الدامغة والقرائن المستمدة من أحكام القانون الدولي.
 
 
لكن الردّ جاء فورياً من الحكومات التي تدّعي الدفاع عن النظام القائم على القواعد وأحكام القانون. إذ رفضت استنتاجات التقرير، أو في أحسن الأحوال، شكّكت في صوابيته وحياده بذريعة أنه «لا يركّز كفاية على حق الدفاع عن النفس»، قاصدة حق إسرائيل طبعاً. وفي حين التزمت حكومات أخرى الصمت حيال التقرير، كان صوت آلبانيزي يلقى تجاولاً واسعاً في أوساط الأكاديميين وأهل القانون والناشطين في مجال حقوق الإنسان والمواطنين العاديين.
 
 
الأصوات المُدافعة عن إسرائيل اتهمت آلبانيزي بـ«التحيّز»، و«معاداة السامية»، وأيضاً «بتجاوز صلاحياتها». أما هي فقد ردّت بهدوء قانوني، وثقة بما فعلته وخلصت إليه في تقريرها، فقالت: «أعرف أن هذا هو الثمن الذي يدفعه مَن يقول ما لا تريد السلطة أن تسمعه. لكن مهمتي ليست محاباة الأقوياء، بل حماية الضحايا، وللضحايا في هذه الحالة أسماء وأعمار وأجساد تحت الأنقاض في غزة».
 
 
لا تساوم آلبانيزي ولا تهادن رغم العقوبات التي اتخذتها بعض الدول بحقّها.
 
وللعلم، سبق لإسرائيل أن أعلنتها منذ سنوات «شخصاً غير مرغوب فيه» ومنعتها من الدخول إلى الأراضي المحتلة. أيضاً الولايات المتحدة جمّدت أصولها ومنعتها أيضاً من دخول الأراضي الأميركية، وقادت حملة لرفض تجديد ولايتها باءت بالفشل.
 
 
 
ضد الخطب الخشبية وازدواجية المعاييرالمقرّرة الخاصة ترفض الخطاب الدبلوماسي الخشبي، وتطالب بتطبيق أحكام القانون الدولي من دون استثناءات ومعايير مزدوجة وحسابات جيوسياسية. وهي تعرف أن ما تتعرّض له من حملات وانتقادات ليس بسبب أخطائها، بل لدقّة حججها وقوتها القانونية. ولذا تقول: «عندما يتموّه الإفلات من العقاب بالواقعية، وتخضع الدبلوماسية للابتزاز الجيوستراتيجي، لا يعود القانون حقاً للجميع، بل يغدو سلاحاً ضد البعض».
 
 
وحقاً، عندما مثلت آلبانيزي أمام الصحافيين في جنيف، أواسط الشهر الماضي، للردّ على أسـئلتهم حول استنتاجات تقريرها الأخير والضغوط التي تتعرّض لها، ردّت: «إنه لشرف أليم أن أكون هنا في هذه اللحظة الحرجة لغزة».
 
 
ثم استرسلت في وصف «... الاحتضار، والفظاعة المُطلقة التي يعيشها سكان غزة الذين يتعرّضون أيضاً للتطهير العرقي». وأردفت: «كل هذا يحصل أمام أعين الجميع، بينما تجهد إسرائيل بكل ما أوتيت به لتجعل من غزة مكاناً غير صالح للحياة». ويومذاك كان بين الحاضرين عدد من مقرّري الأمم المتحدة الآخرين، بينهم المقرّرة الخاصة للحق في حرية الرأي والتعبير، التي أيّدت ما جاء في تقرير آلبانيزي، وتوقفت عند العدد الكبير من الصحافيين الفلسطينيين الذين قضوا ضحية الاعتداءات الإسرائيلية.
 
 
العدد الحقيقي للضحايا
 
 
تشير آلبانيزي في تقريرها إلى أن العدد الرسمي للضحايا في قطاع غزة – الذين ذكرت أن 3 أرباعهم من النساء والأطفال – أدنى كثيراً من العدد الحقيقي الذي يقدّر باحثون وأكاديميون أنه يقارب 680 ألفاً. وتضيف: «إذا تأكد ذلك، ومن الأرجح أن يتأكد، يكون نصفهم تقريباً من الأطفال دون الخامسة من العمر. لكن يصعب التحقّق من ذلك بسبب القيود التي فرضتها السلطات الإسرائيلية على المناطق التي اجتاحتها، بما في ذلك منعي من الدخول إليها».
 
 
ثم إن المقرّرة الخاصة ترى أن معرفة العدد الحقيقي للضحايا في هذه الكارثة، والكشف عن رفاتهم، يحتاجان إلى سنوات من البحث كما حصل في البوسنة.
 
 
 
وتلفت إلى أنه «يكفي التذكير بأن عدد الضحايا فقط بين الناشطين في مجال المساعدات الإنسانية والإغاثة بلغ 1581، فضلاً عن 346 ضحية من موظفي الأمم المتحدة، وأكثر من 250 صحافياً».
 
 
من جهة ثانية، تفيد إيرين خان، المقرّرة الخاصة للحق في حرية الرأي والتعبير، في تأييدها لما جاء في تقرير آلبانيزي: «لقد أصبحت حرب غزة أكبر مقبرة للصحافيين في التاريخ، إذ بلغ عدد الذين قتلوا فيها ما يزيد عن مجموع الذين سقطوا في الحربين العالميتين، وحروب فيتنام، ويوغوسلافيا وأفغانستان مجتمعة». وتتابع: «هؤلاء الضحايا هم جزء من استراتيجية إسرائيل التي تهدف إلى القضاء على الصحافيين لمنعهم من كشف الفظائع التي ترتكبها في غزة».
 
 
وللعلم، طالبت آلبانيزي، فعلاً، بأن تكون حماية الصحافيين في مناطق القتال من أولويات الدول الأعضاء في الأمم المتحدة. وذكّرت بأن رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمير لم يثر هذا الموضوع مع الرئيس الإسرائيلي إسحق هرتزوغ عندما استقبله في لندن، وشددت على أن قتل الصحافيين في سياق نزاع مسلح يعتبر جريمة حرب.
 
 
 
وكشفت عن أن المعلومات التي استقتها من مصادر موثوقة تفيد عن اعتقال ما يزيد عن 10 آلاف فلسطيني على أيدي قوات الاحتلال، وأن هؤلاء يتعرّضون للتجويع والتعذيب، وبعضهم للاغتصاب، داخل السجون الإسرائيلية. وتوجّهت إلى رؤساء الحكومات والجمهوريات ووزراء الخارجية والزعماء الدوليين، لتسألهم: «كيف تنامون؟ هذه ليست فحسب جريمة إسرائيل، إنها جريمة العالم».