الغد-عزيزة علي
ضمن مشروع "إصدارات غزة"، صدرت مجموعة قصصية جديدة بعنوان "أرشيف خارج التغطية" للفنانة التشكيلية تسنيم شتات. قام القاص زياد خداش بتحرير المجموعة وكتابة مقدمتها.
في قلب الإبادة التي فرضتها الحرب الصهيونية، ومن بين خيام النازحين التي تصارع الريح والبرد، ولدت قصص هذه المجموعة لتحفظ ما تبقى من ملامح الحياة في غزة. قصص صغيرة في ظاهرها، لكنها تشبه شقوق الضوء التي تتسلل من بين الركام، لتقول إن الإنسان ما يزال قادرا على اختراع الأمل حتى في أكثر اللحظات قسوة.
التقطت الفنانة الشابة تسنيم شتات حكايات الناس كما هي؛ خامة حية، بسيطة، وصادقة، تحمل في تفاصيلها وجع النزوح وقوة البقاء. ومن خلالها يعاد تشكيل ذاكرة غزة من جديد، ذاكرة لا يحرسها سوى بشر يقاومون بالحب، وبالرغبة في الحياة، وبالكلمات التي ترفض أن تنطفئ.
وفي "توطئة" المجموعة القصصية، تقدم شتات بطاقة تعريف شخصية تقول فيها: "أنا تسنيم شتات، عمري 26 سنة. نزحتُ مرتين من بيتي، وعشرات المرات رفضتُ أوامر الإخلاء الموجهة لمنطقتي وبقيت فيها".
وتضيف شتات أنها، خلال النزوح، عاشت في خيمة في رفح "تل السلطان"، وخلال تلك الفترة تواصلت مع "المتحف المحظور"، الذي منحها إقامة فنية. وأثناء هذه الإقامة قامت بجمع قصص النازحين في رفح وخان يونس، من خلال الحديث معهم عن حياتهم وروتينهم اليومي.
وتشير شتات إلى أن لقاءاتها مع النازحين ارتكزت على سؤالين أساسيين: "ماذا كنتَ تفعل قبل الحرب بثلاث دقائق؟"، "ماذا كنتَ تفعل قبل الآن بثلاث دقائق؟".
وتشير شتات إلى أنها سألت بعض المشاركين أسئلة إضافية مثل: "ماذا كنت تفعل قبل الحرب بيوم؟"، "ماذا كنت تفعل يوم الحرب قبل بدايتها؟"، "ماذا كنت تفعل بالأمس؟".
ثم قامت بتجميع هذه الأحاديث والقصص وتدوينها واحدة تلو الأخرى. وقد استغرق جمعها ما يقارب أسبوعاً إلى عشرة أيام، وذلك بعد عودتها إلى خان يونس حيث بدأت تدوينها وترتيبها.
وتضيف شتات أنه، قبل التوسع في اجتياح رفح، كانت مسألة إرسال هذه القصص معضلة حقيقية بسبب تعطل شبكات الاتصال في خان يونس واشتداد العمليات العسكرية في رفح. "اضطررتُ إلى المجازفة والدخول إلى رفح لأتمكن من الحصول على خدمة الإنترنت لبضع دقائق فقط حتى أرسل هذه القصص. كنتُ أتجه نحو رفح بينما كان الجميع يفرّون منها، وصوت القصف والضرب المدفعي لا يزال مستمراً".
وتوضح أنها تمكنت بالفعل من الاتصال بالإنترنت وإرسال القصص، ثم فرت من رفح إلى خان يونس مشياً على الأقدام حتى منتصف الطريق، حيث صادفت سيارة نقلتها إلى خان يونس، لافتة إلى أن العودة كانت مجازفة لا تقل خطورة عن دخول رفح نفسها.
وتتابع شتات: "كانت تجربتي جميلة ومؤلمة في آن واحد. حصلت على إقامة فنية عملت خلالها على جمع هذه القصص، وتحدثتُ فيها إلى الناس جميعاً: الكبير والصغير، المريض والعامل، القوي والضعيف، الطفل والمراهق... جميعهم تحدثوا بصدق، وبعيون تبرق حين يستعيدون حياتهم قبل الحرب، وبحسرة وأسى وهم يروون تفاصيل حياتهم خلالها، وألمهم لفقدان بيوتهم وأحبتهم، وحجم الوجع الذي يقبع في قلوبهم بسبب النزوح وإجبارهم على ترك منازلهم. كانوا يتحدثون ببساطة وعفوية عن الحياة، عن الحب، عن الدفء... هؤلاء الأشخاص الذين التقيت بهم لدقائق قليلة فقط".
وتؤكد شتات أن هذا الكتاب وجد كي يبقى هؤلاء في أرشيف الذاكرة، فهم أبطال حقيقيون، أقوياء، وما يزالون يقاومون كل النكبات والويلات بكل الطرق الممكنة. "يقاومون التهجير بالبقاء، ويقاومون القتل بالولادة، ويقاومون النزوح بالخيمة، ويقاومون القصف بالركام"، هؤلاء الذين تحدثوا إليها يمثلون غزة، يمثلون فلسطين بأكملها، وهم الباقون رغم كل شيء.
ثم تتحدث شتات عن فكرة هذه القصص، قائلة إنها جزء من مشروع فني هو بينالي غزة، وهو مشروع يسلط الضوء على الفنان الغزي الذي ينهض بالفن من قلب الإبادة، كطائر الفينيق فعلاً. يضم المشروع معارض فنية، ولكل فنان مشارك معرض خاص. أما معرضها فيأخذ قالب كتاب، كتاب يجب أن ينتشر في العالم كله، كي يرى العالم غزة، وتصل غزة إلى العالم، فيعيش العالم داخل غزة، وتتغلغل غزة في العالم.
تحت عنوان "قصص غزة، قصص اختراع الأمل"، يقول زياد خداش في تقديمه للمجموعة القصصية: "لم أشعر في حياتي بذلك الشعور المؤلم المبهج، الغريب والمختلط والمعقد، كما شعرت وأنا أحرر وأعيد كتابة هذه القصص باللغة الفصحى. شهران كاملان كنتُ أتمزق بين حسرة في القلب وبين إعجاب وافتخار وحب شديد لهؤلاء الأنقياء البسطاء الذين تحدثوا بصدق كبير عن حياتهم قبل وبعد جحيم غزة الذي هز العالم".
ويرى أن هذه المجموعة هي عمل رائع قامت به الشابة تسنيم شتات، ابنة خان يونس، ذات الستة والعشرين عاما، والحاصلة على إقامة فنية من "المتحف المحظور"، وخلال هذه الإقامة قامت بجمع هذه القصص من أفواه الناس، عن تجربة النزوح (قبل الحرب وبعدها)، متنقلة بين خيام النازحين، تسجل حكاياتهم بلغتهم العامية العفوية.
ولعل أجمل ما يميز هذه القصص هو غياب الكليشيهات والشعارات والبلاغة المتكلفة، تلك الأساليب التي يستخدمها المتفذلكون الساعون وراء الضوء والكاميرات، والسياسيون الذين يلهثون بهستيريا خلف المجد الشخصي والمناصب والمال.
هنا، في هذه الحكايا، تظهر قصة غزة المؤلمة: التهجير عن أغلى الأمكنة "البيت"، ولو عددنا تكرار كلمة "بيت" في هذه القصص لأدركنا كم هو مخيف وفاجع أن يُجبر النازح على ترك منزله، والأفجع من ذلك أن يظل هذا النازح يحلم بالعودة إلى بيت يعرف أنه صار ركاما.
ويرى أن "الصمود، الفكاهة، الصبر، والذهن الابتكاري" هي أربعة دروس نتعلمها من قصص هؤلاء العظماء البسطاء الذين لا يتذكر أحد أسماءهم. ومن أجلهم جاء هذا الكتاب، ليحفظهم في ذاكرة الناس وذاكرة البلاد. فهم غزة كلها؛ جوهر نبلها، وجمالها، وحكمتها، وصبرها. فأول ما يفعله المهجَّر الغزي هو التحرك فورا لتأمين لقمة عيش أولاده؛ لا أحد يجلس في الخيمة يندب أو يبكي. حتى النساء لعبن دورا كبيرا في مشاركة الرجل البحث عن لقمة الحياة. ولو تتبعنا حضور المرأة في هذه القصص لأدركنا أننا أمام بطلات سيكتب التاريخ دورهن بأحرف من ضوء.
ويبن خداش أن هذه القصص مهمة على صعيد أرشفة حكايات الناس التي يجب ألا تنسى، فهي قصة البلاد كلها؛ فلسطين وهي تعيد تشكيل نفسها من جديد على الأسس الوطنية الثابتة: "الحرية، الكرامة، والسيادة الوطنية".
ويضيف أن "ما قبل الحرب" و"ما بعدها" هما مساحتان تتولدان عنهما القصص، وتملآن القلب حزنا وحيرة. فمن كان يمشط شعر ابنته قبل الحرب بثوان، لم يعد يفعل ذلك بعدها؛ إذ تغيرت الأولويات، وصارت تلك التفاصيل الجميلة من الكماليات.
ويبين خداش أنه كان سعيدا جدا بهذا العمل، رغم ما ناله من نصيب من الألم. يقول إنه، من شدة تأثره بجو النزوح القارس، شعر وكأنه واحد من نازحي الخيام الذين يندفعون فورا للبحث عن سبل العيش وتوفير لقمة الطعام لأطفالهم. فليس هناك أسرع من الغزي في ابتكار طرق كريمة للعيش حين تضيق الطرق أو تغلق في وجهه.
ويؤكد خداش أن هذه القصص هي "اختراع للأمل"؛ ذلك الأمل الذي يبدو مستحيلا وسط زلزال غزة، الزلزال الذي لم يشهد العالم له مثيلا.