الغد
في اختلاف عن أي ذات جمعية أخرى تقريبًا، تنطوي كلمة “نحنُ” (“الضمير المنفصل الذي يُستعمل للمتكلم ومعه غيرُه، ليدل على جماعة المتكلمين”) على إشكالية بالنسبة للفلسطينيين. فقد تمزقت “نحن” الفلسطينية التاريخية، جغرافيًا، وأيديولوجيًا، وظرفيًا. ثمة فلسطينيو الضفة، وفلسطينيو غزة، وفلسطينيو 48 الذين يعيشون جميعًا تحت الاحتلال المباشر والحصار والفصل العنصري. وثمة فلسطينيو المخيمات الذين يعاني البعض منهم أوضاًعا قانونية وحياتية صعبة. وهناك فلسطينيو المنافي البعيدة في أقاصي الأرض. وقد جلب هذا التوزع معه تعددية في التجارب، والمنظورات والأولويات. وأصبح الحديث عن إرادةٍ واحدة تستوعب كل هذه التفاعلات “تطلعاتيًا” أكثر منه وصفيًا. وقد تعدى التمزق الفلسطيني الكيان السياسي ليطال الوجود نفسه حين قاطعت الظروف التي فرضها العنف الاستعماري والاقتلاع الاستمرارية الطبيعية للصوت الجماعي، وكسرت الرابط العضوي الذي يُتيح للفلسطيني استخدام “نحن” الجمعية بالاطمئنان الذي يتيحه الوجود التاريخي في حضن أرض واحدة.
بالإضافة إلى الاقتلاع المادي في النكبة والنكسة اللتين أخرجتا الذات الفلسطينية الجمعية من حيزها المكاني الموحِّد، هوجمت هذه الذات أيضًا في شخصيتها وتصوراتها وفهمها لذاتها وللعالم. وبشكل خاص، منذ “اتفاقيات أوسلو” وما اقتضته من تمزيق لـ”الميثاق الوطني الفلسطيني” وتعريفاته الأساسية، غصّ الخطاب الفلسطيني بالثنائيات المتعارضة: “نضال سلمي/كفاح مسلح”؛ “معتدل/ متطرف”؛ “ممكن/ مستحيل”؛ “عملي/ طوباوي”؛ “فلسطين صغيرة/ فلسطين التاريخية”، وهكذا. وبذلك انشغلت الحركة الوطنية الفلسطينية المنظمة –بل الشعب كله- في التوفيق بين متعارضات. وفي الطريق طال العبث تعريف “فلسطين” نفسه –وهو أساس الذات الفلسطينية والهوية، فوق العبث بالتعريفات الفرعية– إلى حد تبادل الفلسطينيين في ما بينهم تهم الإرهاب والتطرف، والتفريط والخيانة. وبدلًا من التوفيق بين الرؤى والوسائل الموصوفة في النضالات المناهضة للاستعمار، حُفرت أودية بين ما ينبغي أن يكون متوافقًا، في فرز استقطابي قاتل للكل.
في كل ذلك نُسيت الحقيقة البسيطة التي تُعرف غاية النضالات الوطنية للشعوب المستعمرة: تفكيك النظام الاستعماري وطرده –باختصار، التحرر. ونُسيت كذلك حقيقة أنه مع استعمار استيطاني إحلالي، ليس خيار “أنا وأنت” مطروحًا من الأساس، ولسبب وجيه: أن الطرف الذي حدد شروط الصراع الذي بدأه هو يخوضه على أساس وجودي، حيث زوالك شرط وجوده. ومن غير المنطقي أن ترد باعترافك به، وبمشروعه، وباستعدادك للتعايش مع كيان إقصائي بطبيعته! إن هذا لن يُنجيك. إنه سيلغيك.
مع ذلك، تسمع أحدًا يتعامل مع هذا الصراع معروف السمات، وهو يقول للعالم بثقة صاحب المُلك الحر في التصرف بملك يمينه: “نحن الفلسطينيين نريد دولة منزوعة السلاح على أراضي 67”. ثم ستسمع الكل يطالبون لك بذلك، في مأسسة متجنية للتعريف الاعتباطي لفلسطين، وبذلك جعل الاستعمار، بما هو حالة غير أخلاقية وغير طبيعة، طبيعيًا. وفي كل هذا لا أحد يقول أي شيء عن حق العودة الفلسطيني!
في العام 1948، وفق الإحصائيات، كان نحو 70–75 في المائة من الفلسطينيين يقيمون تاريخيًا في المناطق التي أصبحت تُدعى “إسرائيل”. ومع تكاثر اللاجئين وأبنائهم وأحفادهم، فإنّ أي منطق رياضي سيشير إلى أن أصول ثلاثة أرباع اللاجئين الفلسطينيين اليوم تعود إلى تلك المناطق. ماذا تعني لهؤلاء عبارة “نحن نريد فلسطين، منزوعة السلاح، على أراضي 67” من دون حق العودة؟
سوف يشعر واحدهم بالتغريب والطرد، والجرح. هذه الـ”نحن” بالنسبة له إقصائية وليست أبدًا اشتمالية. إنها تتحدث عن “فلسطين” تتنكر له وتنكر اقتلاعه واستلابه وتلغي استمرارية نضاله منذ قرن. وتنطوي صياغة العبارة ذاتها على تمزيق عنيف: ثمة “فلسطين” مختزلة، مجتزأة، ومحصورة في بقعة صغيرة من الأرض؛ وثمة واقع آخر– واقعه هو- خارجها تمامًا، بل وخارج كل الهويات المستقرة في العالم.
بالنسبة لثلاثة أرباع الفلسطينيين، سيبدو الإعلان أعلاه اعتناقًا لا يمكن فهمه ولا تبريره للمنطق الاستعماري الذي ليست العدالة والكمال التاريخي من مفرداته. أما النزع الطوعي للسلاح، فاستسلام طوعي، وإعدام لروح المقاومة، وتطبيع للخضوع في أقصى تجلياته تذللًا، ووضع الرقبة في يد قاتل موصوف. إنّ “نحن” تعطي المستعمر ثلاثة أرباع الوطن، وتضع أمامه ذاتًا فلسطينية نحيلة عزلاء جاهزة للسحق، هي منطوق ذات مشوهة، تتحدث عن “فلسطين” لا تشبه فلسطين، مبتورة الأطراف وفاقدة للذاكرة.
في آب (أغسطس) من هذا العام، اختصر عامي أيالون، قائد بحرية الكيان السابق ورئيس “الشاباك” السابق، ما يعنيه التصريح السابق غير المسؤول. كتب في مجلة “فورين أفيرز”: “لقد تجاهلت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة هذا المقترح. ولكن بالنسبة للإسرائيليين، يمكن الآن فهم المبادرة على أنها انتصار إستراتيجي: تتويج لعقود من الجهود الدبلوماسية والعسكرية التي أثمرت اعترافًا عربيًا واسعًا بحق الدولة اليهودية في الوجود. في العام 1923، كتب زئيف جابوتنسكي- أحد مؤسسي الصهيونية وأحد المهندسين الرئيسيين لعقيدة إسرائيل الأمنية- أن المفاوضات الحقيقية مع العالم العربي لن تكون ممكنة إلا حين يعترف بأن الشعب اليهودي باقٍ في المنطقة”.
ما قاله أيالون هو الحقيقة العارية كما يفهمها معظم الفلسطينيين: إن الانتصار الإستراتيجي للمشروع الاستعماري الاستيطاني الإبادي (المتمثل في “الحل” أو “المقترح” المتداول) يكافئ رياضيًا وعمليًا الهزيمة الإستراتيجية للشعب الفلسطيني. ويدرك ثلاثة أرباع الفلسطينيين من أصحاب الوطن الذي يتنازل عنه “الحل”، والذين يستطيعون وحدهم التحدث بثقة عن الفلسطينيين بضمير “نحن”، باعتبارهم الأغلبية المطلقة، أن “الشعب اليهودي باقٍ” التي تصورها جابوتنسكي ووصفها أيالون ويسوقها الآخرون، تعني أن “الشعب الفلسطيني ذاهب”- إلى حيث لا بقاء.