الدستور-حاورته: خلود الواكد
أن يأتي المطر بالخير، سخيًا باللغة، وافرًا بالمعنى، عذبًا بالعبارات، صادقًا بالعطاء، ندرك أننا ننهل من الأدب الأصيل الرزين، الذي كان بعيدًا كل البعد عن التهريج والاستعراض الذي لا يثمر تأثيرًا على أحد، ولا يستمر، كما زبد البحر يذهب جفاءً.
روائي من الشمال، إربد الخضراء، من سهولها الرّحبة، من الأرض التي بسطتْ كفِّها بالخير، جاء يحمل في جعبته روايات طيبة، تنقل همَّ النَّاس، وحكاياتهم المترعة بالوجع الذي يلمّ بهم في سبيل نيل لقمة العيش، يحكي التفاصيل الدافئة، وذكريات الشّخوص العالقة في أرواحهم الذائبة بالانتظار والحنين، ينقلنا بسرده الدافئ المُنساب كالنّهر، إلى عوالمه البعيدة، ويثقل كاهل القارئ بفائض المشاعر التي يحملها النَّص الرَّصين.
مطر طوالبة ابن الشمال وابن الوطن العربي، والهم العربي...
فلنبدأ بالاسم، (مطر)، كل واحد له من اسمه نصيب، كم لك من اسمك نصيب؟ ومن وهبك هذا الاسم؟
- انا أحمل اسم جدي «مطر» الأول مؤسس عائلتنا وتشرفتُ بحمل هذا الاسم العظيم منفردًا عن أحفاد جدي من الأولاد الذين وصل عددهم للعشرات، هي ميزة أفتخر واعتز بها وأتمنى أن أكون قد شرفت هذا الاسم كما أملَ جدي، وهو الذي رغب أن يحمل اسمه أحد أحفاده حيث أعلن لأبنائه وبناته وزوجات الأبناء أن من يلد له ولد ذكرًا ويسميه مطرًا سيكون «نقوطه» ليرة ذهب، وفازت أمي بهذه الجائزة وفزت أنا بحمل الاسم الكبير وطيب الذكر. أمَّا قصة تسمية جدي باسم «مطر» فقد نشرتها ذات يوم وهي قصة معبرة وذات مغزى ربما لا يتسع المقام لسردها، لكن أستطيع اختصارها أن اهل قريتي «سحم الكفارات» من شمال الأردن هم الذي أطلقوا اسم «مطر» على جدي متوسمين بالخير والبركة والغيث وقد عاش جدي ومات وهو محبوب حنون ويُشهد له بالمواقف المشرفة.
حديث اليوم، روايتك الأخيرة «بعض الحب إثم»، الاسم الذي يثير القارئ ليجد نفسه يغوص في أحداث كثيرة ومتقاطعة، وتُشرك الشارع وأحداثه وهمومه، وبعض السلوكيات الاجتماعية والمعتقدات السائدة. كم كانت قادرة الرواية على وضع إبهامها على الألم والحياة التي يعيشها المواطن ومواجهته للصراعات مختلفة معترك الحياة؟
- قد يلجأ البعض للكتابة بصمت لأنهم عجزوا عن إشعال حرب علنية أو حتى تغيير صغير على هامش القدر، بمعنى آخر، كتابة هذه الرواية كان ضغط على زناد القلم بعد فوات الأوان لشخص عجز أن يضغط على زناد الألم بالوقت المناسب.
فكلنا في هذه الحياة ضيوف عابرون و(كمبارس) لا نقوى على شيء، فقط نجمِّل الهزائم والخيبات، نعيد تسميتها بما يتلاءم مع غرورنا، نضحك على أنفسنا ونتحدث عن متعة الوفاء، زيف الثبات على المبادئ، لذة الصبر، ونحن مكسورون من الداخل. أكبر دليل على كلامي هذا أنني أكتب الآن وجعي متنكرًا برواية.
(بعض الحب إثم) هي قصة حب ليست عادية، المختلف أنها ملحمة كبرى تمشي على رؤوس أصابع الكلام، دهشة حب، فقد، جرح، عتاب، مواجهة، إصرار، منال. باختصار، هي حكاية الحب الذي لا يموت بنزلة بردٍ أو ألف اغتيال.
هذه الرواية ثورة ناعمة على الزمان والظروف، هي طريقة أخرى لوضع النقاط على الحروف. لن اقول شيء أكثر عن روايتي «بعض الحب إثم» هي من ستقول لكم عندما تقرأونها عندها ستعرفون كل شيء.
من «الغربال» التي أُصدرت في 2018 ومن «أيام الخبز» التي أصدرت في 2019، إلى «بعض الحب إثم» التي أُصدرت في 2024. ما الأدوات التي أضافها مطر طوالبة ولم تكن موجودة في الروايات السابقة؟
- نعم هناك نقلة نوعية مهمة في الأسلوب والتقنيات الكتابية والفنيات وهذا دليل مهم على تطور الكاتب. وهناك بعض الكتاب يتبرؤون من العمل الأول عندما تنضج تجربتهم وتتعمق، لكني وأنا أُقر بمستوى «بعض الحب إثم» المتطور -وهو البادي لكل من يقرأها- إلا اني لازلت أُحب روايتي «الغربال» وهي فلذة بوحي وباكورة اعمالي، كما أُحب روايتي «أيام الخبز» لأنهما كانتا قفزتين استطعت من خلالهما تطوير مشروعي الروائي حتى وصلت لروايتي «بعض الحب اثم «، درة اعمالي والإضافة المهمة للرواية الأردنّية والعربيّة.
حضور النّص الشعريّ الصوفيّ الرقيق في رواياتك حاضرة بعذوبة، ومؤثرة في نفس القارئ. أين مطر طوالبة من الشعر، ومتى سنقرأ له أول ديوان شعر؟
- أنا أتذوق الشّعر وأتحسَّسه وأستمتع به لكني لا اجرؤ على المغامرة كشاعر او مزاحمة فطاحل الشعر وأسياده وهم حراس الشعر (ديوان العرب). لكن الكثير من الشعراء تنازلوا عن عرش الشعر ليخوضوا في غمار الرواية، ولا أدري لماذا؟ فقد خسرناهم كشعراء. أما أنا فإنني لن أصدر يومًا ديوانًا شعريًا، هذا ما أحسُّ به الآن، لكن من يدري فقد أتراجع عن كلامي.
إربد عروس الشمال، ومرتع الطفولة، إربد الأُم والحبيبة، كيف كانت إربد حاضرة في شخصيّة وكتابات مطر طوالبة؟
- إربد المكان ومهد العشق والحب الأول... نعم... هي قصة توق وشوق ووفاء بحد ذاتها وأعتقد أن علاقتي مع إربد تحتاج لمساحة أكبر...
ماذا على كاتب الرواية أن يقرأ ليُقدّم رواية ناجحة؟
- هذا سؤال مهم وصعب، ربما يحتاج لوقت طويل ومداولات وبحث. لكن ماذا يعني رواية ناجحة؟ ما هي مقاييس النجاح؟ هل رأي النّقاد مثلًا؟ أم رأي القرّاء أم الجوائز الأدبية أم الأكثر مبيعًا ورواجًا؟ كل هذه أسباب مختلف فيها، لكني أعرف شيئًا واحدًا وهو «أن أي شخص يستطيع الكتابة أو كتابة رواية لكن ليس أي شخص يستطيع كتابة رواية تستحق القراءة». كما أنني أقول دائمًا أن القراءة هي أساس كل كتابة ناجحة. كل كاتب هو قارئ بالأصل، وتبقى القراءة والكتابة متلازمتين في بحر النّصوص مثل السّفينة والبحر فلا يجوز أن نركب سفينة دون بحر. وأخيرًا «مهما كنت كاتبًا فأنت بالأصل قارئ».
هل الأوضاع الرّاهنة على الصعيد الاقتصاديّ والسياسيّ والجغرافيّ، وما أسفرتْ عنه الحروب المُتلاحقة، التي أتتْ على الحياة الإنسانية في البلاد العربيّة المحيطة أثّرتْ على إقبال المجتمعات على القراءة والاهتمام بقراءة الرواية؟ وهل صحيح كما يُقال القراءة تَرف؟
- بلا أدنى شك كل هذه الأمور لها تأثيرها المباشر على المزاج العام وخاصة على جمهور القرّاء، وهم الأكثر حساسيّة وتفاعلًا للأمور العامة لكن هذا الأمر لا يدوم طويلًا لأنَّ القراءة شغف لا تَرف.
وجود الكاتب والروائي بين الجمهور وأفراد المجتمع واحتكاكه الدائم بهم، كيف تجد شخصية الكاتب الذي يتعامل مع الجمهور؟ وهل للجمهور تأثير على ما يكتب ولماذا يكتب ولمن يكتب؟ وهل نقول إن هذا التواجد هو التّغذية الراجعة للكاتب؟
- تختلف دوافع الكتابة من شخص لآخر فبعض الكتابات تأتي هروبًا من واقع الحقيقة لعالم الكتابة الذي يفصله الكاتب كيفما يريد، وبعضها يأتي لتسجيل مواقف أو ثوثيق قصة، يقول أحد الكتاب: «كل حبيباتي التي عجزت عن الحديث معهن بالواقع تزوجتهن بكتاباتي آلاف المرات»، وكل كلماتي التي جبنت أن أقولها بالواقع صرخت بها عاليًا في كتاباتي على رؤوس الأشهاد. وبلا شك إن احتكاك الكاتب بالجمهور هو منجم يستمد منه الكاتب مواده التي يحتاجها ويطورها ويوثقها في مخيلته وكتاباته. ووجود الكاتب بين الجمهور مهم لإعادة صياغة الأحداث ورسم وإثراء السناريوهات وردّات الفعل. والكاتب الناجح هو الذي يلتقط الإشارات والأحداث والانفعالات ويرتبها ويعيد رسمها بما يتوافق مع الحدث.
وأستطيع القول إن لا وقت محدد للكتابة المثالية. ولو استطاع بعض الكتاب وأنا منهم لكتبنا طوال الوقت. ولكني أكتب عندما أشعر أني بحاجة للكتابة. أما أنا فأبدأ النّص وفي نيتي الكتابة للناس، لكني أكتشف أثناءه وبعد الفراغ منه أني أكتب لذاتي.
وفي نهاية حوارنا، ماذا يحمل أديبنا الراقي من مشاريع وأمنيات للعام الجديد؟
- أتمنى أن أجد الوقت الكافي والقدرة والجسارة على تقديم ما يسهم في بث الروح الإيجابية والأمل. متمنيًا أن يكون هذا العام مختلفًا. مختلفًا جدًا من حيث السّلام وجبر كسورنا وخيباتنا وهشاشتنا جميعًا. ولكم مني وافر المحبة.