الإمارات… هندسة القوة الهادئة وصناعة المستقبل* د. سالم الكتبي
ميدل أيست أون لاين -
هنا الإمارات.. حيث لا تُبنى الدول بالصوت العالي، بل بصوت التاريخ الهادئ، وحيث تتجاوز القوة صخب الشعارات لتصبح هندسة دقيقة لعناصر الاستقرار، تُعيد تعريف معنى الحضور العربي في عالم مضطرب، وتصوغ موقع الإمارات في زمن تتبدل فيه خرائط النفوذ وأسئلة المصير الإقليمي.
في الحقيقة، لا تنشأ الريادة من المصادفة، بل من قدرة دولة على تحويل موقعها إلى مشروع، ومواردها إلى رؤية، واستقرارها الداخلي إلى بوابة لصياغة مستقبل المنطقة. ومن وجهة نظري، فإن التجربة الإماراتية اليوم تمثل لحظة سياسية فارقة؛ لحظة تفرض على المراقب أن يتجاوز القراءة الانفعالية للواقع، ليدرك أن هناك مدرسة مختلفة تتشكل، مدرسة تنطلق من الحكمة الاستراتيجية وتبني تأثيرها بعيداً عن الاستعراض والخطابات التي أهدرت فرصًا تاريخية في الإقليم.
منذ بدايات الاتحاد عام 1971، أدركت القيادة الإماراتية أن الدولة الحديثة لا تُبنى بمنطق الاستهلاك السياسي للثروة، بل بمنهج التحول الهيكلي والتنمية القائمة على الإنسان والمعرفة. ولذلك تحوّلت الإمارات من نموذج ريعي تقليدي إلى محور اقتصادي متنوع، تتجاوز فيه مساهمة النفط حدود التاريخ والاعتماد، لتصبح جزءًا من منظومة عالمية في التكنولوجيا والطاقة والخدمات اللوجستية والاستثمار الذكي.
ومن وجهة نظري، فإن ما يميز الإمارات ليس النمو الاقتصادي وحده، بل فلسفة الاستباق، ونقصد بها التحرك قبل وقوع الخطر، وبناء الشراكات قبل ظهور الأزمات، وتحصين الداخل قبل التوسع في الخارج. هذه الفلسفة صنعت ما يمكن تسميته بـ"هندسة القوة الهادئة"، حيث تتجنب الدولة ضجيج الخطابة وتستبدله بالقدرة على رسم التوازنات الإقليمية وعقد تحالفات تعبر شرقاً وغرباً دون ارتهان لأي محور.
وفي السياسة الخارجية، لم تنزلق الإمارات إلى الاستقطابات التقليدية التي رسخت الأزمات في المنطقة، بل اعتمدت نهجًا واقعيًا يقوم على التوازن بين المصالح الوطنية ومسؤولياتها الإقليمية. ولذلك أصبحت شريكًا رئيسيًا في مكافحة الإرهاب، وداعماً لعمليات الإغاثة الإنسانية، وصوتًا ثابتًا في مسار السلام الإقليمي.
وفي ظل ما يشهده العالم اليوم من توترات أمنية متصاعدة وصراعات إقليمية متشابكة تعيد رسم خرائط النفوذ وممرات الطاقة ومسارات التجارة الدولية، تبقى الإمارات نموذجًا لدولة تُدير أمنها واستقرارها بثقة ورصانة. فالمشهد من البحر الأحمر إلى شرق المتوسط والخليج يكشف حجم التغير في طبيعة التهديدات؛ من الإرهاب والميليشيات العابرة للحدود إلى الحرب الهجينة وحملات التضليل وحروب الإعلام الموجّه.
ورغم محاولات التشويش الإعلامي التي تستثمر في الفوضى وتعتاش على الصراعات، تمضي الإمارات بثبات تحت راية العز والفخر، بقيادة صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، حفظه الله، مرتكزةً على قوتها الناعمة والصلبة معًا، وعلى ثقة شعبها، وحكمة سياساتها، وتكامل منظومتها الدفاعية والدبلوماسية، مثبتةً أن الرد الحقيقي على الضجيج هو الإنجاز الهادئ لا الانفعال اللحظي.
واليوم، وهي على أعتاب إكمال عامها الرابع والخمسين ودخول عامها الخامس والخمسين في الثاني من ديسمبر 2025، تبدو الإمارات أكثر رسوخًا وثقة بمسارها؛ دولة شابة بعمرها السياسي، لكنها ناضجة بخبرتها ورؤيتها، تمضي بثبات نحو آفاق أوسع من التنمية والتمكين. لقد قادت رؤية صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، حفظه الله، وإخوته حكام الإمارات هذا التحول العميق، فتحولت دولة الإمارات من مشروع اتحاد طموح إلى نموذج عالمي في الاستقرار الاقتصادي والقوة الناعمة الذكية وريادة القطاعات الاستراتيجية من الفضاء إلى الطاقة النظيفة والتقنيات المتقدمة. ومن منظور استشرافي، فإن المرحلة المقبلة تحمل للإمارات فرصًا أعظم، حيث تسعى لترسيخ موقعها منصةً دولية للسلام والابتكار والاستثمار في رأس المال البشري.
ولا شك أن هذه النجاحات لم تكن لتتحقق لولا رؤية قيادية تستند إلى قراءة هادئة للعالم. فقد أثبت الشيخ محمد بن زايد أن القيادة ليست مجرد سلطة، بل مسؤولية حضارية تُدار بحكمة وصبر ورؤية تمتد إلى منتصف القرن وما بعده. وقد جاء تقدير شخصه الكريم وشخصيته المتميزة على لسان أكثر من مسؤول دولي؛ فقد وصفه الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش بأنه «قائد برؤية إنسانية ثاقبة»، في حين أكدت كريستين لاغارد أن الإمارات في عهده «قدمت نموذجاً فريداً يجمع بين الحوكمة الحديثة والانفتاح الاقتصادي»، بينما أشار رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي إلى أن العلاقات معه «تستند إلى الثقة والوضوح».
وليس بعيدًا عن ذلك، تمضي الدولة في مشروع التمكين البشري وتطوير الكفاءات الوطنية، وتسريع التوطين في القطاع الخاص ضمن مقاربة توازن بين المنافسة العالمية والهوية الوطنية. إنني أرى أن هذا التوازن بين العولمة وتثبيت الهوية هو أحد أهم أسرار النجاح الإماراتي في بيئة دولية مضطربة.
وبطبيعة الحال، لا تخلو المرحلة من تحديات؛ فالتوازن الديموغرافي، ومتطلبات الأمن الإقليمي، وسباق الابتكار، والتحول إلى الطاقة المتجددة، جميعها ملفات تحتاج يقظة مستمرة وإدارة دقيقة للموارد. لكن الإمارات، كما أثبتت التجربة، لا تنتظر اللحظة الصعبة لتتحرك، بل تعمل بمنطق التخطيط طويل المدى والاستثمار في المستقبل قبل أن يصبح المستقبل اختباراً قاسياً للآخرين.
ختاماً، تُثبت الإمارات أن المكانة الجيوسياسية لا تُمنح ولا تُشترى، بل تُكتسب بالثبات والعمل والقرار الاستراتيجي. وإذا كانت بعض الدول تبني تاريخها في ضجيج اللحظة، فإن الإمارات تبنيه في هدوء الثقة؛ ثقة بأن الاستقرار ليس جائزة، بل مسؤولية، وأن القمة ليست نهاية الطريق، بل بداية مرحلة جديدة عنوانها صناعة المستقبل لا انتظاره.