عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    10-Jan-2025

مفلح العدوان: لست روائياً ولا تغريني كتابة الرواية

 الدستور-حاورته: خلود الواكد

دواج الكلمة واللغة الشعرية الشفيفة، وصاحب البوح العتيق المثقل بدفء حكايات القرى وحواكيرها، وقطعان يقودهم مرياع، ونشيج النايات التي غادرتْ المراعي وغادرها الرعيان، قرى حُفر تاريخها وتفاصيلها وروائحها التي علق بها القيسوم والزعتر فينا وفي ذاكرتنا، لقد كتبها مفلح العدوان بحب البدويّ الغيور، والقرويّ الطيب الذي علقتْ ذرات تراب الأرض وملح الأيام على كفيه.
ابن الزرقاء الذي ولد في العام 1966، وحصل على شهادة بكالوريوس في الهندسة الكيميائية من الجامعة الأردنية عام 1990، عمل في الهندسة ثلاث سنوات، ولأن الهندسة بناء، برع في بناء الحكايات والقصص، ليؤكد قول أحدهم «أنا لا أكتب أنا ابني»، انطلق في رحلته الإبداعية منذ أن هوى في قلبه حب اللغة، حلّق في عالم الابداع قاصاً، روائياً، كاتباً مسرحياً، صحفياً، كتب عشر سنوات عن القرى، سرد حكاية ثلاثمئة قرية أردنية، عمل ضخم استحق كل التقدير والتكريم، وهو موسوعة القرية الأردنية (بوح القرى)، لقد نقل لنا تفاصيل القرى ودفعنا إلى أن نعيش الحياة القروية بين السطور، ونتلمّس خشونة الحياة وقسوتها بين الفواصل، قبل أن تمتد أيادي التطور والتوسع العمرانيّ والغابات الاسمنتية لتطمس بعض القرى وتحولها إلى مدن جديدة. لنبقى نعيش ذكرها في لغته.
«لا أحب الكتب لأنني زاهد في الحياة، ولكنني أحب الكتب لأن حياة واحدة لا تكفيني». كما كان للعقاد أكثر من حياة، هل لمفلح أكثر من حياة أيضاً يحمل هم الكاتب والقروي أينما ارتحل في لغته بين المسرح والقصة والرواية، أسئلة عديدة حملتنا إلى لقاء الأديب مفلح العدوان.
 السؤال الذي يخطر في بالي كلما تناولتُ كتاباً رائعاً لمفلح لأقرأه، لماذا فضّل مفلح العدوان دراسة الهندسة على الأدب؟
- لم أختر دراسة الهندسة الكيميائية، ربما أنها هي من اختارتني، أو أنني تطوعت بمحبة لدراستها، احتراما لرغبة أبي الذي كان حلمه أن يكون ابنه طبيبا أو مهندسا، فكيف لي ألا أقابل طيبة أبي، وتوقه المشروع، وبساطته التي تأسرني وأُجلّها، فقبلت رأسه، وحضنت إرادته، وأقبلت على دراسة الهندسة، ولم أتوقف عندها كوسيلة لوظيفة أطمح لها من خلالها، ولكني طوعتها لتكون معينا ونبعا لمعرفة وأسلوب تفكير أشحذ بها أدواتي للكتابة التي كنت مسكونا بها منذ بداياتي في الدراسة، فأضفتها كقراءة وفضاءات أخرى لأتلمس بها كيفية بناء معمار قصصي وكتاباتي، فكانت الهندسة ودراستها، قيمة مضافة بالنسبة لي، امتلكت من خلالها هندسة أخرى للإبداع، ولشق دروب مختلفة في الكتابة.
 أين تجد نفسك أكثر في القصة أم في المسرح أم الرواية؟
- كل كتابة لها حساسيتها ونبضها الخاص بها حين أتعامل معها، وهناك حبل سري يربط بين كل عالم وآخر من عوالمي الكتابية، فالقصة هي كوخي الدافئ الذي بدأت فيه الكتابة، هي مفتاحي الذي دخلت من خالها فضاءات الأدب والإبداع.
وعلاقتي بكتابة المسرح، فيها اكتمال واستمرارية لكتابتي للقصة القصيرة والرواية، تلك العلاقة التلقائية، التي تحمل جوهر الفكرة، وتشكلات السرد، وعمق الحوار، وصدقيّة الشخصيات، ليكون جلال البوح، وبلاغة التعبير، ومسؤولية الرسالة المرادة للكلمة، ومعها تآلف مسوّغ وحقيقي، مع مجمل الإبداعات الأخرى.
في تجربتي للاشتباك والوصل بين القصة القصيرة والمسرح، حاولت أن أرتقي إلى حالة من الكشف، والمواجهة، ونبش المسكوت عنه، ولكن بأدوات فنية عالية، وبروح مبدعة خالصة، تعبيراً عن حالة تفاعلي السردي في القصة وفي المسرح، كتابة، واحتراقا، وتناولاً الفكرة، والحالة المرتجاة، كأنها خيمياء مقدسة، أحاول من خلالها أن أوظف تشكلات الإبداع هذا في الأدب والحياة، إن كان كلمات قصص على صفحات الورق، أو نصوص مسرحية فيها التعبير عن تلك القصص، لتكون تجسدات وعوالم وحيوات تنطلق بحرية على خشبة المسرح.
 هل ستبقى (العتبات) تقف حسناء وحيدة بين المجموعات القصصية والمسرحيات؟ متى سنقرأ رواية ثانية لكم؟
- أنا لا تستفزني أسئلة الهجرة والانزياح من القصة إلى الرواية، كما هو دارج الآن، لأنني لا تغريني كتابة الرواية، إلا إن ألحت عليّ فكرة تسحبني بمسوغات كثيرة إلى الرواية، وهذا ما كان في روايتي «العتبات»، فبعد سنوات من الترحال بين القرى، والكتابة عنها، والاستماع لحكايات أهلها، وجدتني مسكونا بفكرة الكتابة عن التغيرات الاجتماعية التي طالت تلك القرى، من خلال معايشتي لحكايات أهل القرى، ومعاينة أمكنتهم، حينها بدأت بكتابة روايتي المكانية «العتبات»، دون تخطيط مسبق، بل بتلقائية سلسة كما هي حياة الريف ومن فيه.
لا أجد حَرَجاً في أن أصرّح بأني لست روائيا، ولا تغريني كتابة الرواية، ولا أجد فيها امتيازا على الأجناس الإبداعية الأخرى، ولذا فأنا أقول دائما أن كتابتي للرواية كانت نزوة لمرة واحدة، وقد تتكرر إن وجدتني مستلب بتلقائية لفكرة أو موضوع، لا أجد له حاضنة تفيه حق كتابته واكتماله إلا الرواية، ولا أرى هذا الشرط تحقق حتى الآن.
 هل يتحول النص المسرحي إلى قصة قصيرة والعكس؟ ولماذا يُطر إلى هذا التحويل؟
- يقيني بأن في المنزلة بين منزلتي الكتابة القصصية والكتابة المسرحية، هناك دَهشةُ السرد التي يُجَسِّدها المُؤلف؛ قاصاً كان أم مسرحياً، وفق ميزان حَسّاس يوازن فيها بين الحكي والحوار، وهنا يتجلى الإبداع في تعاطيه الدقيق في تلمّسه لمَسْرَحَة القَصّ، ولسَرديَّة المسرح، في كيمياء يتفاعل فيها الحكي مع الحوار درامياً، ليكون التعبير والإمتاع قَصّا ومسرحاً.
بدأت مسيرتي الإبداعية قاصّاً، وأصدرت ست مجاميع قصصية، وكتاب مختارات قصصية، ولذا فإن غواية الكتابة المسرحية أوقدت شرارتها كتابة القصة، فكانت تلك البداية في الارتحال الموسمي من فضاءات القصة إلى آفاق المسرح، ولذا فإن تَمَثُّلات السرد لديَّ بين القصة والمسرح، لها ما يبررها، بل إنها حالة أعتبرها تلقائية، في سياق جوهر الكتابة وجدواها وأقنعتها وإلحاح الفكرة المشدودة بِحَبْلَين: الحَكْي من جهة، والحوار من جهة أخرى.
تُلِحّ الفكرة، فأكتبها قصة، لكن الشخصيات المتمردة في القصة، تبقى تتقافز على السطور، حتى بعد أن وضعت النقطة الأخيرة في القصة.
نعم.. بعض تلك القصص التي أنهيتها، لا يهدأ حراك شخصياتها ولا تتوقف مسارات أحداثها في ذهني، فتبقى تقلقني تستفزني تثيرني، وتعيدني إليها مرة أخرى، لأعيد قراءتها من جديد، بعد أن كنت نشرتها، وأعلنتها، وأبحتها مكشوفة كما اكتملت لحظة نشوتي بانتهائي من كتابتها.
هذا النوع من قصصي، ذات الشخصيات الفاعلة المتمردة، أحس أنها رغم اكتمالها قصصيا، إلا أنها لم تُعَبِّر عن كل تداعيات الفكرة التي أريد، وأن هناك مساحات أخرى لترجمتها من روح القصة، ولكن بسردية أخرى، وعلى منصة أكثر حرية لحركة الشخصيات للتعبير عن أحداثها، فالقصة تصبح هنا، شرارة أولى، وهيكلاً تأسيسياً، لمسرحية تُكتب وفق عناصر كتابة النص المسرحي.
 لماذا المونودراما هي التي تسيطر على مسرحيات مفلح العدوان، ولماذا أصبح هذا النوع من المسرحيات الأكثر انتشارا في السنوات الأخيرة؟
- المونودراما تعبير عن مسرح يعلي من شأن الذات المنفردة، في مقابل المسرح المبني على الحوار الدرامي ذو الصبغة الجماعية، الذي يتأسس على روح الجماعة.
وقد كتبت ثلاث مسرحيات مونودراما هي «آدم وحيداً»، و»تغريبة ابن سيرين»، و»مرثية الوتر الخامس»، محور كل نص منها شخصية إنسانية معروفة، بنيت في كتابتها الصراع على ثلاثة مستويات؛ صراع الشخصية مع نفسها، صراع الشخصية مع الآخر المعروف، وصراع الشخصية مع الآخر المجهول.
أنا تستهويني الشخصيات التاريخية والأسطورية، وفي نصوص المونودراما التي كتبتها، كنت أستدعي نماذج من هذه الشخصيات الثرية بحياتها والأحداث التي مرت عليها، بحيث تترك لي مساحة للتعبير من خلالها عن أفكار وتجليات يمكن اسقاطها على الواقع، مثل شخصية آدم، وابن سيرين وزرياب، إنها تحضر محملة بالغضب حينا، بالألم والحلم والأمل أحيانا أخرى.
في المونودراما هناك مرونة في توظيف كثير من تقنيات الحبكة المسرحية، التي تعطي مساحة أوسع للتعبير عن المسار الدرامي الذي يثري الحوار والصراع والتوتر، ويكون أقرب إلى المتلقي، بعيدا عن الرتابة والملل.
 مسرحية «آدم وحيداً» التي قدمها الفنان الراحل ياسر المصري، وظلال القرى وعشيات وغيرها من المسرحيات التي قُدمتُ في الفضاء الرحب بعيداً عن ستار المسرح ومدرجاته، وكانت في إطار الميثولوجيا التي أثرتْ كثيراً في نصوصك، لماذا الميثولوجيا حاضرة بعمق في نصك المسرحي وحتى أني لمستها في (العتبات)؟
- الميثولوجيا بالنسبة لي هي جزء من مشروعي الإبداعي، لقناعتي بعدم انفصال الجانب الاسطوري عن تفاصيل ظلالها في حياتنا اليومية، إذ إن مجرد لحظة صمت وتأمل لما يحدث معنا وحولنا تجعلنا نشعر ونكتشف أن واقعنا مبني على اتجاه وفعل اسطوري شكلاً ومضمونا.
أرى الأسطورة من خلال سطوة الألوان علينا؛ مثلاً: سلطة الاشارة الضوئية، معنى العلم والسارية، قداسة النشيد الوطني، التَطيّر والفأل الحسن، وجوه الجدات ورؤية تلك النقوش على وجوههن، بياض الكفن والقماط، خُضرة قبور الاولياء الصالحين، صوت الآذان وقرع الاجراس، ومعها كثير من الأشياء التي تتحكم بنا، ونحن ندور في فلكها، كلها تشكل جانباً من موروث أسطوري، نحن مستلبون له، شئنا أم أبينا، إنه استلاب باللاوعي، ينعكس علينا، لكل هذا تتسلل الأسطورة إلى كتاباتي، في المسرح، وفي القصة، لكن ما اكتبه في هذا الاطار فيه إعادة نظر في تلك الأساطير، وعكسها على الواقع المعيش، بلا قداسة ولا استلاب لها، الأسطورة يمكن تكسيرها وإعادة تشكيلها، في سبيل التعبير من خلالها عن فكرتي حول حادثة معاصرة تحدث او كي اطلق نيران كلمتي على حدث معين كما الخيال يحدث الان، الأسطورة استطيع أن اشكلها بأقنعة أخرى، لأنها صارت بعضاً مِني/مِنا، ولأنني اكسر بها كل التابوهات التي تحاصر الكلمة والعقل والقلب والحياة.
 بين أن يكون النص المسرحي مكتوباً أو أن يكون على خشبة المسرح، كيف وجدتَ اللغة تتنفس بين النص المسرحيّ والعرض المسرحي، هل فقد النص المسرحي شيئاً من جمله الرمزية أثناء تحوله إلى جمل حركية؟
- هناك مستويات للتلقي، نابعة من ثقافة القارئ أو المشاهد، وتلك المستويات أعيها عن كتابتي للمسرح، وأنا أعرف بأن قارئ النص المسرحي مختلف عن قارئ الرواية أو القصة أو الشعر. ومن يتوجه لقراءة المسرح، في الغالب، هم المتخصصون والمسرحيون، وأساتذة وطلبة الفنون، والشغوفون بالمسرح من القراء، إنهم يمتلكون حساسية عالية في القراءة ومتابعة التفاصيل، إنهم شريحة واعية جدا بفن المسرح، بعناصره، بتجليات كل فضاءات هذه الكتابة الساحرة التي تتحفز معها كل حواس المتلقي القارئ للمسرح.
المتلقي أو المشاهد للعمل المسرحي، يمثله شريحة مختلطة الثقافة والوعي، وهم ذوي أمزجة مختلفة، ولديهم أدوات متباينة في تحليل ومشاهدة ومتابعة العمل المسرحي، مستويات متباينة من الثقافة والوعي، وبالتالي فالمتلقي هنا صندوق أسود غامض مختلف، يتراوح بين العامة والخاصة، وكل عمل مسرحي له جمهوره المختلف، ومتلقيه أيضا، وهنا تكون الشراكة بين الكاتب والمخرج والمؤدين لتقريب العمل المسرحي، بحيث يكون قريبا من كل تلك المستويات المتباينة من المتلقين.
 في مجموعتك القصصية «هب لي عيناً ثالثة» وفي قصة «لص في حفل عشاء» إلى روح مؤنس الرزاز رحمه الله، كيف يكتب مفلح الدوان مؤنسًا، وكيف يقرؤه؟
- كتبت أكثر من نص عن مؤنس الرزاز، الروائي والمثقف والإنسان، فهو حالة فريدة، وصديق قريب، وكاتب إنساني بامتياز، وكل من قرأه أو عرفه، لا بد وأن يترك مؤنس فيه أثرا.
كان عمرا قصيرا عاشه مؤنس الرزاز (1951-2002)، لكن الأعمار لا تقاس بالسنوات، بل بحجم الإنجاز، وبما يتركه المبدع من أثر إنساني وإرث أدبي، يُخَلّد بقاءه من خلال استمرارية حضوره في وجدان قرائه قريبا من نبض مريديه، ومؤنس أنجز أحد عشر رواية، ومجموعتين قصصيتين، وكثير من الترجمات، ووضع الرواية الأردنية على خريطة الرواية العربية مبكرا منذ ثلاثيته «أحياء في البحر الميت، اعترافات كاتم صوت، متاهة الأعراب في ناطحات السحاب». إنه يكتب تمثيلا للواقع العربي المعاصر بكل تشظياته، ليس من خلال المحتوى فقط، ولكن باجتراحه تقنية تعكس هذا التشظي من خلال معمار سرد مركب ومعقد جعل له بصمته الخاصة في الكتابة الروائية.
عندما أكتب مؤنس الرزاز أستحضره، ومعه شخوص رواياته، فتأسرني شخصية حسنين في متاهة الأعراب، وهو ينفصم إلى حسن الثاني، ثم يتشظى إلى حسن الأول بوعي آخر ليتواصل مع الحاضر. وفي جمعة القفاري/ يوميات نكرة، يكتب مؤنس أمنيته، عن بطل يتمنى أن يكتبه: «»وفي عمان بدأ جمعة القفاري يفكر بدفع أحد الكتاب إلى كتابة قصة حياته، ولما أخفق في مسعاه هذا، سيطر عليه هاجس كتابة رواية عن بطل يتمنى أن يكونه»، وهو هنا يحيلنا إلى فقرة في «كتاب الاعترافات» حول الصدمة المفصلية التي بدأت منها أزمة الشخصية العربية: «فمتى وكيف تعرض الفرد العربي أو الواقع العربي لهذه الصدمة؟ هل تعرض لها في موقعتي الجمل وصفين؟ أم أثناء اجتياح المغول بغداد؟ أم لدى الصدمة الحضارية التي خلفها غزو نابليون لمصر؟ أم بعد نكبة عام 1948؟ أم بعد نكسة عام 1967م؟ أم ثمة سلسلة من الصدمات المتوالية الموجعة التي خلفت انسانا أو واقعا عصابيا مأزوما منفصما حتى النهاية؟».
ومؤنس الرزاز، يُقرأ دائما، كأنه حاضر في رؤاه وأفكاره وتحليله من خلال الإبداع للواقع العربي المشظّى، فقد نجح في تصوير العنف والديكتاتوريات وحرمان الشعوب من الديمقراطية ومصادرة الحريات وتغييب حق الانسان العربي في المشاركة في الحياة العامة لشعبه، وبناء وطنه، هو يدين الواقع العربي الذي بات فيها الفرد مغتربا في ظل مُرَكّب السلطات القامعة على المستوى المجتمعي والسياسي.
هكذا أقرأ (مؤنس)، وأكتبه، من خلال روحه وتشظياته المبثوثة بحرفية عالية، وحداثة مبكرة، في روايته، وشخصياته القلقة التي تعبر عن تجلياته المبدعة.
 كيف تترجم حضور النص القرآني في كتاباتك؟ والبعد الديني والعقائدية؟ وإيمانك بالأساطير والخرافات؟ وهذا المزج العجيب البديع في النص؟
- كأنني جُبلت من ماء ورمل وحرف...
أوازن بين ثالوث التشكيل هذا، وتلك الذاكرة التي تسكنني، فأتماهى معها وفيها، حتى خلّاني هذا الثالوث أنظر بعين غير تلك التي درجت عليها طفولة أبناء أسلافي من سلالة الرمل والشمس، تلك الالتماعات الأولى التي تركت أثرا في روحي، معينها الأول نهران بجانبي يحضناني، فأخفض لهما كل أجنحة نبضي ووعيي؛ أبي إذ يُرتّل القرآن حينا، ويقرأ بمهابة صوته السيرة الهلالية، والآخر نهر أمي بوشم أخضر يعانق وجهها، تصلي وتدعو وتستذكر ما تحفظ من آيات بينات، وحكايات وخرافات.
ذاك الوعي البكر، عزز قراءاتي منذ البدايات للأديان، والأساطير، والتراث، وجعلني أنظر بوعي إلى العالم حولي، وما فيه من تداخل تلقائي وشعبي بين الديني والاسطوري، يهر جليا، في الطقوس التي نتفاعل معها ان كانت في الميلاد أو في الممات، في الحج أو في الصلاة، في السفر أو في الإقامة، في الأعراس وفي الافراح والاتراح، كلها تعكس وعينا الشعبي بالدين بحيث صارت جزءا من ثقافتنا، كإرث ديني أسطوري، وما اكتب من قصص ومسرح ورواية في هذا الاطار هو اعادة النظر في هذا التداخل، وانعكاسه على الواقع بلا قداسة ولا استلاب، بل بتوظيف إنساني إبداعي أدبي.
هذه بعض ذخيرتي في الحياة والقراءة والكتابة، التي جعلتي أنظر بعين ثالثة إلى الأديان والتراث والأسطورة، وأنا أنحت من خلال الكتابة لها أقنعة أخرى، أموهها بأسماء وعناوين وشخصيات وأحداث أخلق منها قصصي ونصوصي ومسرحياتي، وأنا أقدس اللغة التي تمثل لي تاج الكتابة، أتلمس بها معجزة البيان في مدارج ولفائف و»نون وما يسطرون»، و»حينما في الأعالي لم تكن الأرض أرضا ولا السماء سماء».
وأنا من جيل بدأت أول ملامح الكتابة عنده مع الحبر والصورة، حيث كانت تراودني الخيالات المشتهاة، آن كان التلفاز يشبه صندوق العجب، وبالأبيض والأسود، في مقابل ألوان المجلات المصورة، تلك رحلة بكر للمخيلة، بموازاة سورة الكهف ومريم ويوسف، لأغمض عينيّ، المُشَرّبة بالأسئلة: كيف «الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين، وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال»؟! ولم النسوة حين رأينه، «أَكْبَرْنَهُ، وقَطَّعْنَ أَيْديهِنّ»؟! وكيف كان مزاج القديسة، حين جاء الأمر أن «هزّي إليك بجذع النخلة، يتُساقط عليك رُطبا جَنيا»، وهي تنتظر حلمها بعد مخاضها!
كنت أعيد كتابة كل تلك الدهشة، في المتاح من مثيرات الخيال، ولعل هذا ما فتح دهليزا بين ما قرأت عن الأديان، باتجاه ما استمتعت بملاحم الأساطير، ممزوجا بتوق لتتبع تاريخ العلوم من فيزياء وهندسة وكيمياء، لأعاين تلك الخوارق التي كانت تسحرني من أولئك الأبطال على الورق.. بعد هذا، ومع هذا، كان الولوج الى القصة والمسرح والرواية والنصوص الأدبية، ليكون تكثيف كل تلك الحقائق والأخيلة، المختلف منها والمتفق، الشيء ونقيضة، لتكون حالة دهشة الكتابة بإخراج تلك الأسئلة، من بيت الحَذَر، الى فضاء الكشف، إلى فتنة السرد.