الدستور
لم نستهجن نبوءة معهد هدسون الأمريكي التي أطلقها قبل عقدين من الزمن، والمتمثلة بوصول عدد سكان الأرض إلى خمسة عشر مليار نسمة عام 2176، بل ما استهجناه آنذاك أن عالم ذلك الوقت لن يكون بصدد مشاكل اقتصادية تذكر، وأن معضلته الأعم تتمحور في أوقات الفراغ التي يتمرغ بها الإنسان، ويتوجب عليه أن يتعامل معها كقضية مربكة تحتاج مفكرين وفلاسفة وأصحاب قرار شجعان.
يومها، وقبل أن نترحّم على إنسان ما كان يستطيع التوقف عن اللهاث لدقيقة واحدة كي لا يموت جوعا، تمنينا لو يتقزم أسبوع العمل، ورحنا نفكر بأجندة تصلح لامتصاص الفراغ وتحويله إلى مزيد من رفاهية ونعيم تعويضا عما كابده أجدادنا وآباؤنا في رحلة شقائهم العويصة فوق البسيطة الصعبة.
منذ ثلاث سنوات تسعى اليابان إلى تقليص أيام العمل إلى أربعة أيام في محاولة لتخفيف ثقافة العمل المرهقة وتحقيق توازن بين الحياة والعمل، إلا أن الموظفين بغالبيتهم العظمى يرفضون قبول هذه الميزة بسبب العادات المتجذرة في حب العمل حتى شوشة رؤوسهم وأعلى، تماما كما يغرق غيرهما في تقديس الكسل وتمجيده في بعض دول ما يصطلح عليه دول العالم الثالث، أو التالف لا فرق بين المعنيين في كثير من الحالات.
فاليابان التي تحقق معدلات عمل تكاد تصل إلى 2000 ساعة لكل عامل في السنة، ما زالت تشهد حالات موت عديدة بسبب الإفراط في العمل الجاد المضني المرضي الشغفي. الأمر الذي جعلهم يشتقون مصطلحاً لغويا خاصاً بهم هو «كاروشي» ليدلل على هذه الحالة العجيبة الغريبة، أي الموت بسبب ضغوطات العمل، والإفراط فيه.
بالطبع لا أريد أن أدخل في متاهة أو مهزلة حساب عدد الساعات الفعلية المنتجة المؤثرة في الدول النائمة، التي يؤديها العامل سيما بعد أن اطلعت على تقارير تفيد أنَّ المعدل العام لتلك الساعات عند موظفهم العام يتراوح بين ساعة واحدة إلى ثلاث ساعات ونصف من أصل سبع ساعات مطلوبة منه فعليا.
إذا كان اليابانيون يموتون بالكاروشي؛ فمن باب أولى أن تصحو الدول المخدرة بكسلها، وتشرع في حياة كاروشي عكسي يتمثل في حب العمل، كي لا نقول الموت بسببه. هي تحتاج أن (تموت فيه) عشقاً وتفانيا وإخلاصاً؛ علها تسحب نفسها من الوحل البليغ الذي تنعم فيه.