الدستور
نختلف قليلاً حول تسمية صيدنايا، فبعضنا سيقول عنها كلمة آرامية لمدينة جميلة معلقة بغيمة، وآخرون سيدعون أنها مشتقة من صيدون، إله الصيد عند الفينيقيين، وغيرهم سيردد أنها يونانية بمعنى السيدة الجديدة، ولكننا سنتفق كلنا نحن الذين ما زال في قلوبهم مسحة من حق أن صيدنايا أيقونة للبشاعة البشرية، وصمها نظام بشار الهارب بطغمة لن تزول، وستبقى ذاكرة لمحرقة لا تصفها سوى الآهات.
وإن كان الخروج من المسلخ البشري هذا يمثل ولادة جيدية، فإن الخروج منها بلا ذاكرة هو موت أحمر. لكن عالمنا لن يتذكر شيئا عمن يولدون بلا ذاكرة، وإن كانوا في عداد الأحياء المرصودين في سجلات دوائر النفوس، ولهذا أتذكر الآن ما صدح به الشاعر الإسباني غارسيا لوركا قبل إعدامه بيد أنصار الطاغية فرانثيسكو فرانكو أيام الحرب الأهلية قبل تسعة عقود، « ما الإنسان دون حرية يا ماريانا؟ قولي كيف أستطيع أن أحبّـك إذا لم أكن حرًا؟ كيف أهبك قلبي إذا لم يكن ملكي؟
فالظاهر أن موت إنسان، وهو ينشد حريته أثقل في ميزان الرأفة العالمية من كفة من كُتب عليه أن يحيى ما بقي من عمره المُرّ بلا ذاكرة تُذكر أو تتذكّر، مع أن أبجديات الإنسانية وقواميسها المجيدة ما فتئت تصدح كل حين وحنين: ما الإنسان دون ذاكرة أيتها الحياة؟
صحيح أن الخروج من غيابات سجون النظام السوري يعدُّ ولادة جديدة لمتعقل لم يخطر في باله أن يرى قرص الشمس جهرة في بوح السماء من جديد. لكنها ولادة تشبه موتا مركباً إن كانت بلا ذاكرة كنا نملكها وتملكنا. بمثل هذا القول الممزوج شفقة وألماً علق البعض على خروج عدد من المعتقلين من ذلك السجن وهم فاقدو ذاكرتهم. بل إن بعضهم قال إنه من الأرق بمن رزح في عذابات تلك القبور، وما نعرفه عنها، أن يعيش حياته المقبلة بلا ذاكرة لن تكفّ عن همزه وعضه بأظفارها وأسنانها الحمراء. فماذا ستفيد ذاكرة تميته في الموتة آلاف المرات، وبين المرة وأختها يتراءى له برزخ من سجون تلفها سجون. وصحيح أيضاً أن أهالي هؤلاء المعتقلين توقعوا أن يخرج أبناؤهم أشخاصًا آخرين مثقلين بعذابات جسدية ونفسية، لكنهم لم يتصوروهم أبداً بلا ذاكرة. هم ليسوا هم.
يرى طب الأمراض النفسية أن فقدان الذاكرة تحت وطأة الأزمات الجسدية أو العاطفية ينجم عن ألم كبير يضرب الدماغ. أي عندما يوضع الواحد في مأزق يغدو فيه غير قادر على تحمله؛ فإن آليات الدفاع النفسي تعمل جاهدة على حجب الذاكرة أو تغييبها. وكأنه يقول إن فقدان الذاكرة شكل من أشكال حماية الدماغ من ظلم السجون وما فيها من خوف وقهر واغتصاب وصدمات تبرّح الروح وتجرّحها. فعن أية حماية تتحدث أيها الطب العتيد.
لكن ما يحصل هو أن الطغاة وزبانيتهم الذين أمعنوا تنكيلاً وتعذيباً في المعتلين لربما كانوا يريدون أن يحتووا ذاكرة ضحاياهم، أو بالأحرى أن يصادروها كما صادروا أجسادهم وحياتهم وأحلامهم، بل ويريدون إدخال هذه الذاكرة في مساحة من العدم والسواد الطاغي الذي لن تكسره الألوان الأخرى. فالذاكرة هي ما يدلُّ علينا حين ندرج في أكفاننا، أو حين نصير أحاديث في ألسنة من بعدنا. ومن دونها نحن لن نكون نحن أبداً. هي بصمتنا على كوكبنا السيار. ولهذا تصبح الحرية، أو الولادة الجديدة المتمثلة في إطلاق السراح بلا قيمة إن كانت سترافقنا ذاكرة معطوبة أو معبأة بما أراده الجناة.