عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    09-Nov-2021

الخدعة في علم “داعش”

 الغد-أحمد الشمسي* – (مجلة نيو لاينز) 28/10/2021

 
ترجمة: علاء الدين أبو زينة
 
بدلاً من كونها قد ظهرت من نصوص كتبها النبي محمد في القرن السابع، كانت الرسائل المنسوبة إليه نتاج فئة من الرجال المغامرين في عصر الاستعمار الأوروبي، الذين رأوا فرصة لتحقيق الدخل من الجوع المتزايد للمتاحف والمكتبات وجامعي التحف من القطاع الخاص للتحف التاريخية. وعلى الرغم من أن السكان المحليين في الشرق الأوسط استفادوا أيضًا من عمليات الاحتيال هذه، فإن الأوروبيين هم الذين شغلوا أعلى المراتب وأكثرها ربحًا في هذه الصناعة المزدهرة. لقد امتلكوا الموارد، والهيبة، والأدوات العلمية التي مكنتهم من تحديد القطع الأثرية الحقيقية والحصول عليها -وتلفيق أخرى مع التمتع بالمصداقية. وتُظهِر قضية رسائل النبي محمد كيف يمكن تمويه الأصول غير الجديرة بقصص اكتشافات مليئة بالإثارة ووضعها في نوافذ العرض الأكاديمية المزخرفة التي تلفق الحقائق لإرضاء الجمهور المستعد للاعتقاد بأنه ينظر إلى الشيء الحقيقي.. وبادعاء امتلاكه نسخة الإسلام الخالص، وقع تنظيم “داعش” ضحية لخدعة كان قد تم فضحها منذ فترة طويلة في القرن التاسع عشر.
 
* *
في العام 1854، أصدر دبلوماسي فرنسي يُدعى فرانسوا ألفونس بيلين François Alphonse Belin إعلانًا شكل مفاجأة مذهلة: أعلن عن اكتشاف رسالة أصلية كان قد أرسلها النبي محمد إلى حاكم مصر في القرن السابع، ممهورة بالختم الشخصي للنبي. وتخبرنا كتب السِّيَر التي كتبت عن حياة النبي أنه كتب مثل هذه الرسائل، ولكن حتى ذلك الحين كان يُعتقد أن أياً منها لم ينجُ. وكانت رواية بيلين عن الاكتشاف مثيرة، ولو أنها خيالية. لكن التاريخ الحقيقي للرسالة -وتاريخ الرسائل الأخرى التي يُزعم أن النبي محمد قد كتبها والتي ظهرت على السطح بعد ذلك بوقت قصير- لا تقل إدهاشاً. وقد مرت تلك الرسائل المزورة بين أيدي رجال الأعمال الأذكياء، والعلماء المتحمسين، والسلاطين الساذجين، ليتم تكريسها في النهاية في أقل الأماكن احتمالاً: العلَم الرسمي لتنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش).
وفقًا لبيلين، كان الذي اكتشف الرسالة التي كتبها النبي محمد هو فرنسي يُدعى إتيان بارتيليمي Etienne Barthélémy أثناء بحثه في مكتبات الأديرة القبطية بالقرب من بلدة أخميم بجنوب مصر. وتمتلئ رواية بيلين عن اكتشاف بارتيليمي بالتفاصيل المثيرة: فهي تصور بارتيليمي وهو يكافح ببطولة ضد الإرهاق والإفلاس من أجل إنقاذ الكتب القديمة من النسيان وتسليط الضوء عليها. وقد كوفئ على مثابرته عندما وجد مخطوطة عربية. وبعد فحص الغلاف التالف، تحسس وجود ورقة مخطوطة بداخله وشرع في نزع الغلاف، بعد أن تعرف على كلمة “محمد” مكتوبة بخط قديم. ولذلك اشترى، وقد استولت عليه الإثارة المحمومة، تلك المخطوطة لتدقيقها عن كثب. ويستشهد بيلين برسالة أرسلها بارتيليمي إلى عائلته بعد فترة وجيزة، والتي يصف فيها جهوده المضنية لفك رموز الرسالة، ويختتم بالقول: “بالنظر إلى الختم وبداية السطر الأول، فإنني أميل إلى الاعتقاد بأن هذه الرقعة هي رسالة موجهة من محمد إلى الأمة القبطية، وأن هذا الختم هو خاتم نبي المسلمين”.
على الرغم من أن بيلين تدرب على يد أبرز المستشرقين في عصره، إلا أنه سعى إلى شغل مهنة في السلك الدبلوماسي الفرنسي، حيث عمل أولاً مترجماً، ثم قنصلاً في القاهرة وإسطنبول. وبفضل أوراق اعتماده العلمية ومنصبه البارز، حمل حُكم بيلين وزناً وتأثيراً كبيرين. وقد احتوت الدراسة التفصيلية للرسالة المزعومة على نسخة من الرسالة وترجمة فرنسية للنص الذي يدعو السكان المسيحيين في مصر إلى اعتناق الإسلام، ويقترح الحوار على أساس العقيدة التوحيدة المشتركة. وتطابق وصف بيلين للوثيقة بدقة مع أوصاف رسالة محمد الواردة في الأعمال التاريخية الإسلامية المبكرة، مثل “فتح مصر” لابن عبد الحكم، الذي كُتب في القرن التاسع. وإضافة إلى ذلك، جادل بيلين بأن نص الرسالة يشبه النصوص القديمة المستخدمة في المخطوطات القرآنية المبكرة التي حصل عليها المستشرقون الفرنسيون (بالقوة) أثناء احتلال نابليون لمصر. وبفضل تأييد بيلين، بلا شك، اشترى السلطان العثماني عبد المجيد تلك الرسالة في العام 1858 بسعر مذهل بلغ 500 ألف قرش تركي -أي ما يعادل 73 جنيهاً من الذهب.
وأخذت الحماسة والإثارة العلماء المستشرقين بدورهم أيضًا. وعلى الرغم من أن “مجلة المجتمع الاستشراقي الألماني” اعترفت في العام 1856 بأنه لم يتم التأكد من صحة الرسالة على وجه اليقين بعد، فقد أعلنت أن دراسة بيلين الشاملة جعلت صحتها مرجحة للغاية. وبعد أربعة أعوام، زعم تيودور نولديك Theodor Nöldeke، في الطبعة الأولى من دراسته الرائدة للقرآن، أن صحة الرسالة لا يمكن أن يخالطها الشك. وبالنظر إلى هذا الاتفاق الساحق، تم استخدام نص الرسالة لاحقًا كمرجع للمصادقة على صحة نصوص أخرى. وعلى سبيل المثال، تم الإعلان في العام 1857 عن أصالة مخبأ تم اكتشافه حديثًا للعملات النحاسية على أساس وجود أوجه تشابه بين النص في الرسالة والنص المنقوش على العملات المعدنية.
ظهرت الصدوع الأولى في هذا الإجماع في العام 1863، عندما خرجت إلى الضوء رسالة أخرى يُزعم أن النبي محمد هو الذي كتبها. وبالمثل، قام السلطان العثماني بشراء هذه الرسالة. لكن هاينريش ليبرخت فلايشر Heinrich Leberecht Fleischer، عميد الدراسات الاستشراقية في ألمانيا في ذلك الوقت، سخر علانية من الرسالة الثانية، وكتب أن “الإيطالي الذي قام بتزويرها أو نشرها لا بد أن يكون قد ولد تحت نجم محظوظ إذا تمكن من خداع مسلمين متعلمين حقًا”. وأشار فلايشر، مشيرًا إلى العديد من الأخطاء الفادحة فيها، مثل الخطأ الإملائي في اسم المرسل إليه، إلى أن “الرجل أراد أن يرى ما إذا كانت الدجاجة التي وضعت مثل هذا البيض الذهبي الجميل لبائع رسالة محمد (الأخرى)… ما تزال على قيد الحياة”.
ثم جاء النقد الأكثر شمولية وقطعية من المستشرق النمساوي جوزيف كاراباسيك Joseph Karabacek، الذي كان قد عمل على مجموعة من أوراق البردي العربية في فيينا، والتي تحتوي على بعض من أقدم الوثائق التي كتبها مسلمون في أي مكان في العالم. ووفقًا لكاراباسيك، فإن التحليل الباليوغرافي المقارن -مع التركيز على شكل النص- لهذه البرديات القديمة والرسالة الموجهة إلى الأقباط أظهر بوضوح أن الأخيرة مزورة. وسرعان ما قبل المجتمع العلمي الألماني استنتاجات كاراباسيك. وعندما نشر تيودور نولديك الطبعة الثانية من كتابه عن القرآن، فإنه عكس فيه موقفه السابق صراحة، معلناً أن الرسالة “ليست أصلية بالتأكيد”. (المستشرقون البريطانيون، المتخلفون كثيراً عن زملائهم في البر الرئيسي في دراسة النصوص، صمدوا لفترة أطول).
في العالم الإسلامي، لم تتم مناقشة صحة الرسائل المزعومة المنسوبة إلى النبي محمد لبعض الوقت، ربما لأن هذه الرسائل كانت مخفية في البداية عن أعين الجمهور. والسلاطين العثمانيون، الذين جمعوا بسرعة ما مجموعه أربعا من هذه الرسائل، احتفظوا بها ضمن مجموعة الآثار المقدسة (التي تحتوي أيضًا على أشياء مثل ضرس النبي، وعباءته، وشعر لحيته) وقدموا لها احترامهم في زياراتهم السنوية الاحتفالية. ولم تُطرح الأسئلة حتى العام 1904، عندما جادل مقال نُشر في مجلة “الهلال” المصرية بأن نص الرسائل يشكل محاولة فجة لتقليد الكتابة الإسلامية المبكرة. لكن هذه الرسائل تلقت دعمًا قويًا من الباحث في حيدر أباد، محمد حميد الله، الذي دافع، في سلسلة من المنشورات التي ظهرت من العام 1935 إلى العام 1985، عن أصالة -ليس الرسائل الأربعة التي كانت في مجموعة السلطان فحسب، وإنما عن صحة رسالتين أخريين موجودتين في أيدٍ خاصة أيضاً.
كانت حجة حميد الله المركزية هي أنه لم يكن لدى العلماء المسلمين ولا المستشرقين في القرن التاسع عشر معرفة كافية بالنصوص المبكرة بحيث يتمكنون من إنتاج مثل هذه التزويرات المعقدة، لذلك يجب أن تكون هذه الرسائل حقيقية. لكن هذا ليس صحيحًا: قبل نصف قرن من مقالة بيلين، قام العلماء المستشرقون -وفي مقدمتهم معلم بيلين، سيلفستر دي ساسي Sylvestre de Sacy- بدراسة وتمييز خصائص نص أجزاء من مخطوطات القرآن المبكرة، والتي أطلقوا عليها اسم “كوفية” Kufic وأثبت تحديد التاريخ بالكربون المشع منذ ذلك الحين أن هذه الأجزاء تعود بالفعل إلى القرن الأول للإسلام، والتي توضح مقارنتها بالرسائل المعنية أن الأخيرة مزيفة: كان الكتبة الذين كتبوها يجاهدون في سبيل تقليد نص غير مألوف إلى حد بعيد. الخط الأساسي للكلمات غير متسق، والمسافة غير منتظمة، والحروف مرسومة بشكل غير ثابت أكثر من كونها مكتوبة. وبفضل الإنترنت، يمكن للمرء اليوم تصفح عشرات العينات من الكتابات القرآنية، إضافة إلى وثائق أخرى ونقوش صخرية، تعود إلى العقود الأولى للإسلام. وبجانب هذه العينات الأصلية، تبدو الرسائل المزعومة مثل وضع قلاع “ديزني لاند” إلى جانب نماذجها الأصلية من العصور الوسطى. ولكن، في الوقت الذي كان فيه عدد قليل من الناس قادرين على الوصول إلى نصوص كوفية أصلية، كانت للقطع المزورة فرصة للمرور بنجاح.
كما يثير الختم الموجود في نهاية الرسائل المزعومة تساؤلات أيضًا. فوفقًا للأوصاف المبكرة، احتوى الختم الشخصي لمحمد على عبارة “محمد رسول الله” مع وضع كل كلمة في سطر منفصل، بدءًا من كلمة “محمد” في الأعلى. وقد تم إثبات وجود العبارة بهذا الشكل على عملات إسلامية قديمة جدًا. ولكن، بحلول القرن الرابع عشر، بدأ بعض العلماء المسلمين في التكهن بأن ترتيب الكلمات على الختم قد يكون في الواقع عكس ذلك: لفظ الجلالة، “الله”، في السطر الأول، و”رسول” في السطر الثاني، و”محمد” في السطر الثالث. كان من شأن هذا الترتيب أن يضع “الله”، بدلاً من محمد، في القمة، الأمر الذي شعر هؤلاء العلماء بأنه سيكون أكثر ملاءمة. وقد تبنى هذه الفكرة الحلبي (توفي في العام 1635)، وهو مؤلف سيرة خيالية، ولكنها شائعة بشكل دائم، للنبي محمد، والتي احتوت على كل أنواع الزخارف الخيالية. ومع ذلك، وكما أشار ابن حجر العسقلاني (توفي في العام 1449)، وهو مرجع في الروايات التي كتبت عن النبي محمد، فإنه لا يوجد دليل تاريخي يدعم الادعاء بأن نص الختم بدأ بلفظ الجلالة، “الله”. كان ذلك اختراعًا من العصور الوسطى.
وإذن، فإن هذه الرسائل مزيفة. ولكن من زورها، ولماذا؟ يشتبه كاراباسك في الأقباط المصريين، مشيرًا إلى ممارسة معروفة في العصور الوسطى في المجتمعات المسيحية واليهودية، حيث تم تزوير الرسائل التي يعفي فيها النبي متلقيها من الضرائب. لكن تلك الرسائل من العصور الوسطى كانت قد كُتبت لهدف عملي واضح، ولم يكن قد تم حسم صحة محتواها والاستشهاد به في الروايات التاريخية، وقد زعمَت عمومًا أنها مجرد نسخ وليست نسخًا أصلية. ولكن، على النقيض من ذلك، تم تسويق الرسالة التي روج لها بارتيليمي على أنها الرسالة الحقيقية، التي جاءت من يد النبي نفسه. وقد أعادت تلك الرسالة نسخ نص وثيقة معروفة، وقلّدت الخط الكوفي المبكر، وكُتبت على البرشمان بدلاً من الورق (وهو تفصيل مهم، حيث تم اعتماد الورق في العالم العربي فقط بعد زمن النبي محمد).
ولكن، يجب أن يكون المشتبه به الأول هو بارتيليمي نفسه، وهو رجل أعمال كان حريصاً على تحصيل معرفة باللغات الشرقية. وقام بنشر اكتشافه بنشاط بين الدبلوماسيين والأكاديميين ونجح في الحصول على مصادقة بيلين، ما سهل بيع الرسالة المربحة للغاية للبلاط العثماني. ومن بين الشخصيات المشبوهة الأخرى شخصان أوروبيان، هما ريباندي Ribandi وويلكينسون Wilkinson، اللذان قاما بدور الوسيط في عملية البيع، وإيطالي ادعى أنه حصل على الرسالة الثانية من خلال حيلة جريئة؛ حيث سافر عبر سورية متنكراً في شكل مواطن محلي (في مجاز ينتمي إلى خيالات المغامرات الشرقية في القرن التاسع عشر)، وقام بشراء الرسالة بحجج كاذبة. وتمتلئ حكايات هؤلاء “المكتشفين” الأوروبيين بالكليشيهات الملونة، وإنما الفقيرة بشكل ملحوظ التفاصيل. في أي دير وجد بارتيليمي المخطوطة العربية التي تحتوي على الرسالة الأولى؟ ممن اشترى الإيطالي الذي لم يُذكر اسمه الرسالة الثانية؟
تشير الصياغات والإغفالات المريحة في هذه القصص والسمات المشبوهة للرسائل نفسها إلى أنه تم تزويرها في القرن التاسع عشر على يد أوروبيين تلقوا تدريبًا علميًا كافيًا لإنتاج تلفيقات ذات مصداقية، إضافة إلى التمتع بالاتصالات المطلوبة والذكاء التجاري لتحويلها إلى مال. وقد أخذ هؤلاء الرجال التقارير التاريخية المبكرة التي تفيد بأن محمدًا أرسل رسائل إلى حكام أجانب، وقاموا بتحويلها إلى قطع أثرية يمكن أن تثير اهتمام السلطان العثماني.
بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية، تم دمج الرسائل والآثار النبوية الأخرى الموجودة في مجموعة السلطان ووضعها في متحف قصر توبكابي، وعرضها كمواضيع للجذب السياحي. كما استمرت في الحفاظ على قيمتها التعبدية بالنسبة للمتدينين الورعين، كما يتضح من الكتيب الذي صدر بعد العشرينيات من القرن الماضي والذي يحتوي على صورة وترجمة تركية للرسالة الموجهة إلى الأقباط.
لكن هذه الرسائل عادت وتلقت فرصة جديدة تمامًا للعودة إلى الحياة في العام 2007، عندما تبنت الجماعة المتشددة التي أطلقت على نفسها اسم “دولة العراق الإسلامية” علَمًا يتضمن نسخة طبق الأصل عن ختم النبي محمد المزعوم، المنسوخ من الرسائل المزورة. وفي مستند مجهول الكاتب تم نشره عبر الإنترنت، أقرت المجموعة صراحةً بأن رسائل متحف قصر توبكابي هي مصدر الختم. ويُحسب للمتشددين أنهم كانوا على دراية بأن ترتيب الكلمات على الختم لا يتطابق مع الأوصاف المبكرة، لكنهم جادلوا بأن اكتشاف الرسائل الفعلية أثار المزيد من الشكوك حول الترتيب الصحيح الخاضع للنقاش. ولم يتم ذكر أن الرسائل قد تكون مزيفة، أو أن نصها كان مشكوكًا فيه.
وعندما أعادت الجماعة تسمية نفسها بـ”الدولة الإسلامية” في العام 2014 وأقامت دولة الخلافة التي لم تدم طويلاً، أصبح الختم المزور لمحمد رمزًا لحكم المتشددين. ولم يتم استخدامه على العلم الأسود سيئ السمعة فحسب، وإنما تم وضعه أيضاً كعلامة للمجموعة على إنتاج الدعاية الكبير لتنظيم “داعش”، وتم ختمه على وثائقه. وهكذا، قامت ببث خديعة كان قد أنتجها مستشرق أوروبي إلى العالم مجموعة تدعي أنها الورثة الشرعيون لعباءة النبي.
لقد احتضن تنظيم “داعش” ما اعتقد أنه ختم محمد للسبب نفسه الذي جعل السلطان العثماني مستعدًا لدفع أثمان باهظة مقابل امتلاك رسائل النبي المزعومة: السعي إلى الشرعية. وفي حين أن شراء السلطان للرسائل كان استمرارًا لحملة سلالته التي استمرت على مدى قرون لتكديس الأشياء المقدسة، لم يكن لدى “داعش” اهتمام كبير بالأشياء في حد ذاتها؛ لقد سعى فقط إلى تسخير الأهمية الرمزية للختم، والتي يمكن إعادة إنتاجها ونشرها بسهولة. وبذلك، ربما يكون مفهوماً أنه لا العثمانيون ولا “داعش” كانوا مهتمين حقاً بفحص التاريخ الفعلي لرموزهم عن كثب.
بدلاً من كونها قد ظهرت من نصوص كتبها النبي محمد في القرن السابع، كانت الرسائل المنسوبة إليه من نتاج فئة من الرجال المغامرين في عصر الاستعمار الأوروبي، الذين رأوا فرصة لتحقيق الدخل من الجوع المتزايد للمتاحف والمكتبات وجامعي التحف من القطاع الخاص للتحف التاريخية. وعلى الرغم من أن السكان المحليين في الشرق الأوسط استفادوا أيضًا من عمليات الاحتيال هذه، فإن الأوروبيين هم الذين شغلوا أعلى المراتب وأكثرها ربحًا في هذه الصناعة المزدهرة. لقد امتلكوا الموارد، والهيبة، والأدوات العلمية التي مكنتهم من تحديد القطع الأثرية الحقيقية والحصول عليها -وتلفيق أخرى مع التمتع بالمصداقية. وتُظهِر قضية رسائل النبي محمد كيف يمكن تمويه الأصول غير الجديرة بقصص اكتشافات مليئة بالإثارة ووضعها في نوافذ العرض الأكاديمية المزخرفة التي تلفق الحقائق لإرضاء الجمهور المستعد للاعتقاد بأنه ينظر إلى الشيء الحقيقي.
ولم تكن خلافة “داعش” فريدة من نوعها في ذلك بأي حال من الأحوال: فقد تم بناء عدد لا يحصى من دول ما بعد الاستعمار على أساطير استعمارية ابتكرها وطورها العلماء المستشرقون. ومع ذلك، فإن حقيقة أن “داعش” -وهي جماعة مهووسة بأصالتها الخاصة وتحررها من التأثيرات الخارجية- وقعت ضحية لخديعة أوروبية عمرها 150 عامًا هي شأن لا يخلو من المفارقة.
*أستاذ مشارك في الفكر الإسلامي بجامعة شيكاغو. له كتابان: “تقديس الشريعة الإسلامية” The Canonization of Islamic Law (2013)؛ و”إعادة اكتشاف الكلاسيكيات الإسلامية” Rediscovering the Islamic Classics (2020).
*نشر هذا المقال تحت عنوان: The Hoax in the ISIS Flag