عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    05-Dec-2019

صحافة في عالم "الصح آفة"*مالك العثامنة

 الحرة

"دور الإعلام في حل النزاعات وبناء السلام".
 
كان هذا عنوان المؤتمر الذي كنت من ضمن المشاركين فيه مع نخبة من الخبراء والمهنيين والإعلاميين في تونس مطلع هذا الأسبوع. كانت فعالية مكثفة ليوم واحد فقط، لكنها متخمة بالمدهشات التي تثبت لي أن المعرفة محيط كبير لا نهائي وأننا دوما بحاجة إلى المعرفة الجديدة.
 
قد يبدو العنوان عاديا جدا وتقليديا بامتياز، لكن فعليا، وخلف العنوان الفضفاض والذي يوحي بترف الفكرة أكتشف ـ ربما من كانوا معي من ذوات وخبرات اكتشفوا معي أيضا ـ أن هناك فعلا دور إعلامي خطير وحيوي ومهم في حل النزاعات بل وربما تأجيجها أحيانا، وذلك حسب نوع الخطاب المستخدم.
 
والخطاب لا يقتصر على الكلمات، فالصورة أو المضمون المخفي بين السطور أحيانا قد يكون رصاصة أو ما يتجاوز مفعول قذيفة، وقد يكون الخطاب كذلك زناد المسدس الذي يفجر كبسولة البارود في الطلقة.
 
المهارة تكمن في توظيف أدوات الثورة التكنولوجية في خدمة المهنية، لا العكس
ألان طومسون، صحفي كندي مخضرم، أيقظني كصحفي عربي من وهم "مركزية الكون" التي أتخيلها لقضايا العالم العربي، حين ذكرنا أننا نعيش على كوكب واحد معا، ومن خلال عرضه لأهم ما في تاريخه الصحفي من قصص، قصة مجازر رواندا. عرض الرجل بخبرته المهنية، التي لخصها في كتاب مطبوع أيضا، مجمل فكرة الدور الإعلامي للصحافة في حل النزاعات أو تأجيجها، ودور الإعلامي من خلال مهنيته في بناء السلام.
 
العمل ليس سهلا، حتى في عصر الثورة الرقمية وتكنولوجيا المعلومات، فإن المهارة تكمن في توظيف أدوات الثورة التكنولوجية في خدمة المهنية، لا العكس.
 
أن يكون لديك منصة تخاطب بها العالم، ليس إنجازا يذكر اليوم، لكن أن توظف أدوات المعرفة والتواصل بطريقة مهنية وجهد احترافي هو التميز الحقيقي.
 
جانب من مؤتمر "دور الإعلام في حل النزاعات" الذي افتتح أعماله في العاصمة تونس بتنظيم الحرة ومعهد السلام الأميركي
جانب من مؤتمر "دور الإعلام في حل النزاعات" الذي افتتح أعماله في العاصمة تونس بتنظيم الحرة ومعهد السلام الأميركي
في رواندا، كان هناك فيديو التقطه صحفي بريطاني عام 1994، يعني في زمن لم يكن فيه التصوير سهلا، الفيديو الذي التقط مجزرة في شارع في قرية رواندية معزولة عن إدراك العالم، وثق القتل بدم بارد، ووثق منهجية القتل المعتمدة كاستراتيجية مدروسة من قبل مليشيات أغلبية تبيد أقلية، كان العالم حينها يتحدث عن رواندا كصراع بين قبائل، دون فهم التفاصيل، وكان هذا الفهم القاصر كافيا لمليشيات الأغلبية التي تحكم، كي تستمر بمنهجية الإبادة دون قلق من رد فعل.
 
الفيديو الذي انتشر على العالم، غير وجهة النظر. كان قتلا بدم بارد لرجل جاثي على ركبتيه يصلي في لحظاته الأخيرة، وامرأة خلفه على الأرض تحمل طفلها على ظهرها، وحولهما جثث مترامية.
 
طريقة القتل والوقت الطويل الذي أخذته العملية أثبت للعالم أن فهمه لما يحدث في رواندا قاصر جدا، وحين تصحح الفهم، تدخل العالم وتداعى، لتنتهي حرب رواندا التي انتهت اليوم إلى دولة مستقرة ومزدهرة وسياحية.
 
صحفي شجاع واحد، وثق اللحظة في ظروف دموية قاسية، فرسم الطريق للعالم نحو أول خطوة لبناء السلام في هذه الدولة.
 
ألان طومسون، وبعد سنوات طويلة من فيديو مجزرة هذا الشارع الترابي البعيد والمعزول، بقي مسكونا كصحفي في القصة، فاستأذن (لاحظ أدبيات المهنة هنا)، صاحب الفيديو بمتابعة القصة لمعرفة هوية القتلى في الفيديو، تعريفهم للعالم يعيد لهم إنسانيتهم بدلا من أن يبقوا غبارا على هامش النسيان.
 
ذهب ألان إلى القرية، وبقياسات بسيطة من زاوية تصوير الفيديو وموقع الشارع حدد بالضبط البقعة التي تمت فيها العملية، ثم قابل الناس وحفر في ذاكرة الجيل الذي عاش الحرب، حتى توصل إلى شهود عيان ثم إلى أهل القتيلين (الرجل والمرأة).. وجد صورا لهما ووثق أسماؤهما.
 
تلك يا سادة.. صحافة محترمة.
 
يوجعني التفكير في عملية البحث عن كل هؤلاء الضحايا المنسيين في إباداتنا العربية المتراكمة، اليمن وسوريا والعراق وباقي الجغرافيا المشغولة بالدم منذ زمن طويل.
 
♦♦♦
 
على جانب آخر.. في تونس وفي ذات السياق.
 
دوما أرى في هوامش المؤتمرات ثراء ووفرة في المعرفة عبر من تلتقيهم من ذوات تتعلم منهم وتتبادل معهم الخبرة والمعرفة، تلتقيهم على هامش الحدث، في مقهى أو لوبي فندق، أو مطعم أو ممشى على رصيف.
 
كنت محظوظا هذه المرة بنخب ثرية، كل له معرفته ويبحث عن جديد الآخر أمامه.
 
تناقشنا عن موضوع المؤتمر، وفي حديث غير رسمي لم تسجله محاضر الفعالية، طبقنا ما سمعنا وعرفنا على واقع إعلامنا العربي..
 
يوجعني التفكير في عملية البحث عن كل هؤلاء الضحايا المنسيين في إباداتنا العربية المتراكمة
لسنا قاصرين، هنالك قصص مبهرة في الصحافة العربية، استطاعت أن تبني السلام، وتحقق رؤية إنسانية محترمة.
 
المؤسف أنها قصص "قليلة" نسبيا أمام صحافة عربية كانت دوما قائمة على خطاب كراهية وإقصاء يؤججان الصراعات والأزمات، والمستفيد دوما سلطة ترسخ استبدادها بشرعية "الأمن والأمان" في لعبة مزدوجة كان الإعلام دوما أهم أداة فيها.
 
أتذكر مقولة لكاتب أردني كان يسمي زاويته الصحفية فيها وهي تجزيئ لكلمة الصحافة لتصبح "الصح آفة"، وربما هذا هو واقع الصحافة في عالم عربي "الصح" فيه "آفة".
 
بكل الأحوال وبمجمل الحال، فإنه من تلك الهوامش في المؤتمرات المماثلة، تخرج ربما فكرة جديدة لتضامن مهني يعيد للمهنة بعضا من ضوابطها، وكثير من قيمتها كرسالة بناء لا بلدوزرات هدم.