عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    20-Mar-2021

شعرنا المعاصر إلى أين؟ (5): حساسيات ورؤى جديدة تثري المشهد الشعري التونسي

 القدس العربي-عبداللطيف الوراري

يمكن للقارئ والمتتبع أن يكتشف غنى وتعدد المقترحات الجمالية التي يخلقها الشعر التونسي في وقتنا الراهن، ما يضعه في مصاف الشعريات الأهم داخل العالمين العربي والمتوسطي معا. وإذا كانت حركة الطليعة التي قادها شعراء مجددون، من أمثال منصف الوهايبي ومحمد الغزي وغيرهما، قد جددت منذ سبعينيات القرن الماضي في المنظور الجمالي للذات والعالم، وأحدثت الأثر العميق في الوعي الشعري الجديد، فإن الشعراء الجدد منذ تسعينيات القرن نفسه قد ساهموا بدورهم، نتيجة انفتاحهم على مدونة الشعر العالمي، ورهانهم على التعدد والاختلاف وإيمانهم بأخلاقيات الكتابة، في تنويع المتن الشعري وإثرائه بروافد ومرجعيات فنية متباينة، من قصيدة التفعيلة إلى قصيدة النثر والأشكال الوجيزة من الشعر الكثيف مثل الشذرة والومضة والهايكو.
لكن في العقد الأخير؛ أي منذ اندلاع الثورة وما رافقها من سجالات الفضاء العام، أو تلاها من خيبة أمل كبيرة في تحقيق المشروع الوطني المنشود، يمكن أن نلمس في مجاميع هؤلاء الشعراء علائم من مشاعر الحزن والقلق والاغتراب، والشعور بالسوداوية والعبث ولاجدوى الكتابة، كأنهم لسان جيل غاضب من هذا العالم الشائه، الذي وقف على مشهدياته الموجعة وسحب سمائه الملبدة بالشك والرماد. بيد أنهم ارتقوا إلى التعبير عن ذلك كُله بالجماليات المُقاوِمة، وليس بقاموس البكائيات الأهون، وأبان عدد غير يسير منهم، من خلال اجتهاداتهم واقتراحاتهم النصية، عن مدى وعيهم باشتراطات اللحظة الحضارية الجديدة، وما تمليه من تحولٍ في الحساسية الجمالية وفي أدائية التعبير الفني، تحت تأثير الفضاء الرقمي ومتطلبات «أزمة الشعر» التي لا تظهر إلا في المنعطفات الأشد خطورة.
 
منية عبيدي: ثراء المشهد
 
تشهد الساحة الشعرية في تونس تحولاتٍ، تتمثل أهم رهاناتها في تطور تشكلات القصيدة جماليا. فبعد الأثر العميق الذي تركته «حركة الطليعة» في سبعينيات القرن الماضي، وبعدها التجربة التي اصطلح عليها «شعراء التسعينيات» برز العديد من الأسماء والحركات الشعرية، التي شكلت وجه الكتابة الشعرية، وأسست لمشهد شعري خصب من خلال الإنتاج الشعري، أو المساهمة في إحياء الساحة الثقافية، وتنشيط الملتقيات والندوات الشعرية. من ذلك «حركة نص» التي تراهن على مفهوم «النص» وقصيدة النثر رهانا عميقا، وقد أثمرت مدونة شعرية وملاحظات تنظيرية حقيقة بالنظر والتأمل والمقارنة. وقد تناولت هذه التجارب الشعرية مواضيع متنوعة منها الاجتماعي والسياسي والعاطفي والمحلي والوطني والعالمي، في قالب إبداعي يبحث عن الصورة المستحدثة والعبارة الملائمة للمعنى والمبنى.
والناظر في المشهد الشعري التونسي يلحظ تطورا واستمرارا لتجارب شعرية امتدت نحوا من نصف قرن، منها ما راهن على الخطاب الصوفي في تجارب عديدة مشاربها متنوعة، ومنها ما راهن على قصيدة الواقع بنفس شعري يقرّب النص الشعري من اليومي، ومنها ما يستعيد القصيدة العمودية مؤمنا بجدواها وعمق أثرها في المتلقي، ومنها ما راهن على الشعر المنجمي وشعرية الألم، ومنها ما راهن على السرد أساسا من أسس جمالية الشعر وتشكلاته الفنية. ولعل حركة شعرية نسوية يمكن الإشارة إليها أسست لها قراءات نقدية، سعت إلى ضبط سمات تميزها وتجلو خصوصيتها. والثابت أن مدونة الشعر المعاصر في تونس اتسعت في منعطف الألفية الثالثة، فتضاعفت دواوين الشعر، من حيث غزارة الإنتاج وتعدد أشكال الكتابة، فنحت التجارب الشعرية نحو قصيدة الومضة والنص الشعري الوجيز، بما هي كتابة توافق نسق تسارع الحياة.
 
مناخ الحرية الذي ساد البلاد دفع الكثير من الشعراء إلى الكتابة في مواضيع كانت واقعة تحت طائلة الرقابة والمنع من الكتابة فيها، أو نشر نصوص كُتبت من قبل لكن لم تُنشر فظهرت للوجود وساهمت في إثراء التجربة الشعرية التونسية.
 
ولا يمكن أن نسهو عن فئة من الشعراء الشبان، الذين بدأوا يشقون طريقهم بثبات، من خلال نصوص جديرة بالدراسة والنقد، لما تحمله من تجديد على مستوى الأسلوب والفكرة. فإلى جانب القصائد النثرية التي هيمنت على الكتابات الشعرية، نجد أنواعا أخرى مثل القصائد القصيرة جدا، أو القصائد الومضة والشذرة، أو حتى الهايكو هذا النوع الجديد الذي بدأ ينتشر بصفة تدريجية ويبحث له عن موقع في الساحة الثقافية، وظهر مدافعون عنه انطلاقا من فهمهم وتمثلهم للهايكو الياباني، وهو نوع متأثر بتيار شعري ياباني بدأ يكتسب العالمية، رغم أن بداياته في اليابان كانت منذ القرن السابع عشر مع ماتسو باشو (1644-1694). وقد خلق هذا النوع من الشعر في تونس جدلا حول مشروعية وجوده، باعتباره اقتراحا إنشائيا جديدا، وتوجها جماليا مهاجرا من تربته وقع إعادة إنباته في التربة الشعرية التونسية. اتسمت التجربة الشعرية في تونس عموما، بعد الثورة، أو في فترة ما سمي بالربيع العربي، بالتنوع والثراء، نظرا إلى التغيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المهمة، التي جعلت الشاعر يتأرجح بين المأمول والواقع يأسره المنشود حينا، ويكبله الموجود حينا آخر. كما أن مناخ الحرية الذي ساد البلاد دفع الكثير من الشعراء إلى الكتابة في مواضيع كانت واقعة تحت طائلة الرقابة والمنع من الكتابة فيها، أو نشر نصوص كُتبت من قبل لكن لم تُنشر فظهرت للوجود وساهمت في إثراء التجربة الشعرية التونسية. ومن الثابت أن انفتاح تونس على الغرب، مثلها في ذلك مثل كل بلدان شمال افريقيا، إضافة إلى استعداد شعبها لتعلم اللغات المختلفة، وقدرة أغلب الأفراد على التكلم، وفهم لغتين أجنبيتين على الأقل، هما الفرنسية والإنكليزية، ساهم مساهمة فعالة في جعل التجربة الشعرية التونسية تجربة متنوعة ومنفتحة على أشكال الكتابة العالمية.
 
فتحي خليفي: رهانٌ على التعددية
 
حينما التحقنا بكلية الآداب في منوبة في تسعينيات القرن الماضي، كان يسكننا الشغف بالأدب، والشوق إلى تعميق معارفنا بقوانينه وأسئلته وأجناسه وجمالياته. ولعل أكثر ما كنا نتوقعه من أساتذتنا في قسم العربية وقتها، هو أن نجد في دروسهم العامة والموجهة حيزا ما للأدب التونسي نثره وشعره. لكن خيبتنا كانت صادمة بعد أن بدأنا نكتشف، شيئا فشيئا، أن معظم المسائل التي كانوا يقترحونها علينا لم يكن للأعمال الأدبية التونسية منها حظ أو نصيب، رغم كل ما كان يبذله محمد القاضي وحمادي صمود وحسين العوري، والراحلان الطاهر الهمامي وعبد الله صولة من محاولات كانت ترمي إلى فتح الدرس الجامعي على الأدب التونسي، وتدريبه على مصاحبة نماذج منه مصاحبة إصغاء واستكشاف ومساءلة. ومما كان يتردد على ألسنة بعض أساتذتنا، استطرادا وعَرَضا، أن الأدب أدب بصرف النظر عن جنسية كاتبه، وعن مكان كتابته في إشارة منهم إلى أن «تونسية» الأعمال الأدبية وحدها لا يمكن أن تفرض على «الجامعيين» ومؤسساتهم، الالتفات إليها، وتسليط أضواء النقد والتحليل والنقاش عليها. وهذا معناه أن استبعادهم الشعرَ التونسي من دروسهم ودراساتهم، لم يكن فعلا اعتباطيا، بقدر ما كان تمشيا واعيا ومقصودا، يجد له في المسوغ الفني قاعدته الأساس وسنده الرئيس، لذلك لم تكن الاستطرادات التي كانوا ينعطفون إليها في تضاعيف حديثهم عن الأصوات الشعرية العربية المكرسة، كبدر شاكر السياب وأدونيس ونزار قباني ومحمود درويش، إلا إقرارا دونية الشعر التونسي، وتسليما بافتقاره إلى ما به يثبت جدة منجزه وحداثة خياراته الجمالية، وحركية مساراته الإبداعية على نحو من الأنحاء. لكن الثابت عندنا أن التعامل الأكاديمي مع المشهد الشعري التونسي، في العقدين الأخيرين على الأقل، قد تزحزح عن مواقعه «القديمة» وبدأ يعلن تحرره من قيود جملة من المسلمات النقدية المضللة، كالقول بأن الشعر التونسي بقي شعر قصائد لا شعر تجارب، أو القول بأن شعرية أبي القاسم الشابي ستبقى الشعرية الأعلى التي لن يقدر الشعراء التونسيون، على اختلاف أجيالهم وتباين رؤاهم وتفاوت مواهبهم، على مجاوزتها والإفلات من ظلالها.
 
أبرز ما يمكن أن نصف به منجز الشعر التونسي المعاصر أنه منجز متنوع تنوعا هائلا، على نحو يصبح معه مجرد التفكير في رد كثرته إلى وحدة مفترضة ما، أو إلى تصنيفات ممكنة ضربا من «اليوتوبيا» الزائفة، أو الاستقراء الناقص في أحسن الأحوال.
 
ولعل أبرز ما يمكن أن نصف به منجز الشعر التونسي المعاصر أنه منجز متنوع تنوعا هائلا، على نحو يصبح معه مجرد التفكير في رد كثرته إلى وحدة مفترضة ما، أو إلى تصنيفات ممكنة ضربا من «اليوتوبيا» الزائفة، أو الاستقراء الناقص في أحسن الأحوال. ومع ذلك كله، ليس لنا إلا أن ننبه إلى أن سمة التنوع ليست سمة خاصة بمنجز الشعر التونسي، أو مقصورة عليه، بل هي سمة مختلف الكتابات الإبداعية المسكونة بهواجس الحداثة وما بعدها، والمحمولة، بالقوة أو بالفعل، على الانخراط في أفق المغامرة والتجريب. والذي يبدو لنا في هذا الباب هو أن التعدد الذي يسم الشعر التونسي المعاصر في أكثر من مستوى، أبان عن مداومة عدد من الشعراء الحاذقين على تعهد كتاباتهم الشعرية، تصورا وممارسة، بالمراجعة والتطوير والعدول والاستئناف، مداومة أغنت نتاجهم الشعري وجعلتهم أصحاب مشاريع شعرية حقيقية يعزز لاحقها سابقها أو يباينه. وحسبنا هنا أن نذكر، على سبيل المثال لا الحصر، تجارب كل من منصف الوهايبي ومحمد الغزي وفتحي النصري ونصر سامي.
ومما يلفت النظر في المشهد الشعري التونسي، فضلا عما سبق، أنه مشهد زين لكثيرين منه اتخاذ قصيدة النثر أفق كتابة يرومون به توسيع ممكنات الشعر، واختبار مسالك أخرى في قوله. لكن قلة منهم استطاعوا، في تقديرنا، أن يبلغوا سقف ذلك المرام، بفضل وعيهم النظري العميق بصعاب قصيدة النثر أولا، وما أظهروه من قدرة على إخضاع مختلف مكونات نصوصهم وروافدها لمقتضيات الوظيفة الشعرية في مفهومها العام لا مفهومها «الجاكبسوني» الضيق. ويمكننا، هنا، أن نستحضر، تمثيلا لا حصرا، إسهامات باسط بن حسن وعبد الفتاح بن حمودة وأمامة الزاير في هذا الباب. لا شك في أن متابعة الشعر التونسي المتابعة النقدية الجادة والرصينة هي وحدها الكفيلة بتمثله في تعدده واختلافه وتحوله.
 
أشرف القرقني: نزعة التجريب
 
إن الخوض في الشعر التونسي بين الحداثة والمعاصرة يعود بي رأسا إلى لحظة تأسيسية حملت عنوان «حركة الطليعة» التي تأسست سنة 1968. لقد مثلت هذه الحركة استشكالا لقضايا الشعر والفكر وموضع مساءلة ضرورية في سياقها التاريخي. لكنها أقلعت إجمالا بجناح النقد، فقد فشلت في تقديم مدونة إبداعية مهمة وقيّمة أو بعبارة أخرى مدونة تظل حديثة حتى راهننا هذا. كما أنها، مثلها مثل كل الحركات الطلائعية، انتهت، بشكل طبيعي في حُكم التاريخ، إلى مصادرة هذه الطلائعية لتفضي المجال إلى ما سمي بجيل الثمانينيات والتسعينيات. وفي تجارب أبناء هذا الجيل تفرق الشعراء بين من يرى رهانه مقتصرا على قصيدة التفعيلة، وثلة قليلة جدا ممن أسس لمشروعه الشعري في جنس قصيدة النثر. وأبرز هؤلاء يوسف خديم الله وعبد الباسط بن حسن والمنصف الخلادي وعبد الفتاح بن حمودة وميلاد فايزة وفتحي قمري ورضا العبيدي. أما عبد الفتاح، فسوف يلعب لاحقا دورا مهما ومميزا في تقديم تجربة شعراء الألفية الثالثة (أو الحركة الشعرية الجديدة وفق تسميته الخاصة) للقراء في تونس وفي العالم العربي.
لقد مثل لقاءُ الثورة الفنية التي يسعى هؤلاء الشباب إلى تحقيقها من خلال خيار قصيدة النثر والثورة التي انطلق في تحقيقها الشعب التونسي مع نهاية سنة 2010 إلى تطابق تاريخي مخصوص. والجميل في هذا التطابق أنه متناغم مع حقيقة الشعر في تصوري، إذ لا وجود للشكل خارج المعنى والذات، أو في انفصال عنهما. إن حاجة الشاعر إلى خلق تجربته المتفردة تنشئ تطورا في الشكل/المعنى. ولذلك ظهرت مع هؤلاء الشباب ديناميكا جديدة في المشهد التونسي. أسس عبد الفتاح بن حمودة مع مجموعة من الشعراء (صلاح بن عياد، أمامة الزاير، خالد الهداجي، نزار الحميدي، عبد الواحد السويح، السيد التوي) – ومعظمهم من كتاب قصيدة النثر حركة شعرية سُميت بحركة نص. والطريف أن هذه الحركة استوعبت في الكتب التي نشرتها قصائد الشباب الذين رأت فيهم تمثيلا للأفق الذي يعنيها، حتى لو يكن هؤلاء الشباب من المنخرطين فيها رسميا. ولم تستمر هذه الحركة لفترة طويلة. لكنها مثلت إحدى وجوه الديناميكا المتحدث عنها سلفا.
 
أتاحت الثورة التونسية وانفتاح الإنترنت التي كانت مغلقة في نظام بن علي المجالَ للانتباه إلى التجارب التونسية الشابة والمختلفة. كما رفدت هذه التجارب بدورها بما يكتب في العالم العربي والآداب الأخرى خارج القنوات الرسمية التي كانت تمر بمسالك النظام القديم.
 
وإجمالا، يمكنُ القول إن الشعر التونسي المعاصر عرف نزوعا إلى التجريب والتحديث. فانتهى بعد عقود من الكتابة والتنظير والنقد والمحاولة في شتى الاتجاهات إلى انتخاب وجهين من وجهي الحداثة الشعرية (من حيث الشكل الشعري) وهما كما ذكرتُ قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر أساسا. وهذا الانتخاب هو محصل علاقات معقدة تصل الشعراء وفكرهم بمجتمعهم وما يتخلقُ فيه. وهو يكسر أيضا «أسطورة» طالما راجت. وهي أن المغرب العربي موطن نقد أما المشرق فموطن شعر وإبداع.
لقد أتاحت الثورة التونسية وانفتاح الإنترنت التي كانت مغلقة في نظام بن علي المجالَ للانتباه إلى التجارب التونسية الشابة والمختلفة. كما رفدت هذه التجارب بدورها بما يكتب في العالم العربي والآداب الأخرى خارج القنوات الرسمية التي كانت تمر بمسالك النظام القديم. إنني أتحدث عن جيل صار مطلعا بشكل دقيق ومفصل على تجارب قصيدة النثر في المغرب وحركة كركوك وما بعدها في العراق، والجيل الثاني من كتاب قصيدة النثر في لبنان (وديع سعادة وبسام حجار مثلا) وما إلى ذلك.
كل هذه التجارب مثلت روافد مهمة لشعراء الألفية الثالثة. وأعتقد أن ما تكتبه أهم أصواته اليوم يمثل أفقا مهما في الشعر العربي الحديث إلى جانب أصوات فريدة أخرى «عابرة للأجيال» يُشهد لها بكونها ظلت تتجدد فنيا وفكريا على امتداد عقود طويلة مثل المنصف الوهايبي وآدم فتحي وفتحي النصري ويوسف رزوقة. ويمكن لهؤلاء أن يثروا مدونتي الشعر والنقد في المغرب والمشرق العربيين والعالم. وتلك مسألة يتصل فيها سياسي الأدب بسياسات كثيرة من خارجه.
 
كاتب مغربي