الراي
.. أفتقد عبدالكريم الدغمي في المجلس، ذاك الوجه الشرس والملامح الحادة.. والسيجار الصغير، والمداخلات الغاضبة.. وربما لو كان موجوداً لقرأ لنا خطابا يشكل درسا في القومية، ولعرج على المشهد السوري.
هذا الرجل مثل المعارضة الوطنية بكل تجلياتها، انحاز لسوريا الدولة.. وللقضية وقدم شخصية المتمرد الغاضب على المشهد والحياة، لولا الجنون يا عبدالكريم ما أحببناك، أنت مثلت الوعي في الحياة التشريعية ومثلت العشيرة والتقدمية والحالة الوطنية، ومثلت تمرد العاشق لا تمرد الكاره.. وكنت أذكى وأخلص وأنبل المجانين.
أفتقد عبدالكريم الدغمي.. ياما حاولوا تكسيره، وما انكسر.. حاولوا تشويه الصورة، لكنهم لم يعرفوا أنه كان يبث من القلب مباشرة، وبث القلب يقاوم كل أشكال التشويش.. وقالوا عنه إنه يمضي لياليه في الفنادق حين يسافر.. هم لم يقرأوا ما قاله مظفر: (اه من العمر بين الفنادق لا يستريح).. هو لم يكن يريد لهذا العمر أن يستريح.. فقد عاش الشعر حالة، ولم يقرأه.. كنت أظن أن قصائد مظفر النواب تقرأ ونخضعها للتذوق ونخضعها أيضا للتحليل وفن المضمون.. عبدالكريم تجاوزنا في دروس البلاغة والنقد والنحو وعاش القصيدة حالة.. كانت خبزة في لحظ? ورشفة الماء، ومقود السيارة ووجوه الأولاد، وقبلات الأحفاد.
قالوا لي أنك مسافر، سافر من مثلك أرهقته المكاتب والسجائر وفناجين القهوة والحزن.. أعرف أنك حين تسافر تترك كل شيء إلا الحزن يرحل معك، وأعرف أنك تشتري له تذكرة على (البزنس كلاس).. وأعرف أنك تداريه وينام معك وإن غادر لحظة تطلبه.. سافر يا صديق، وفي المرة القادمة خذني معك، فأنا مشتاق لتعلم فن المنطق وفن السيجارة وفن العيون الحمر، مشتاق للعودة إلى زمن الصعاليك والصوفية، زمن الكلمة والقصيدة، زمن الكيمياء القومية التي لا تتفاعل إلا مع دمنا.
افتقد عبدالكريم الدغمي، وأنا أكتب لك حناناً وليس مقالاً، ونفخة سيجارة في سويعات الصباح ترد المزاج بدويا، وأكتب له شوقا لزمن كان حين يجلجل صوته في أروقة المجلس تصمت الحيطان.. أتعبها صدى صوته، وربما أحبت فيه هذا التمرد..
قلت أفتقد عبدالكريم الدغمي.. وأحب كل عام أن أكتب لصديقي وأخي وابن عمي الذي جمعني به التراب الأغر، والشعر.. واللغة العذراء، للعلم هذا الرجل هو الوحيد الذي فك طلاسم العذرية في الخطابة.. في كل مرة كان يقف فيها تحب القبة.. كان يقرأ من لغة لم يقرأ أحد قبله مثلها.. كان في كل خطاب، يقدم نموذجاً جديداً في تطويع المفردة.. وتصويب الحرف، صدقوني أنه كان يسدد مباشرة ولا يقرأ.. الكلام في فمه كان طلقة والورق مخزن رصاص.. لهذا هو ابن اللغة العذراء.
عبدالكريم قالوا لي إنك مسافر.. هل سافر حزنك معك كالمعتاد، كنت أريد الاطمئنان عليك.. يا ابن اللغة العذراء، ويا ابن الوعي الأصيل الذي نفتقده كثيراً وكثيراً وكثيراً..