عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    31-Oct-2025

قراءة في رواية البحار للروائي هاشم غرايبة

 الدستور-د. دلال عنبتاوي

 
قبل البدء بالدخول أو الحديث عن عالم هاشم غرايبة الروائي لابد من المرور على ذاك العالم الروائي المترامي الأطراف المتسع والشاسع ولن أستطيع بورقة نقدية ـــ لن يسمح لها من الوقت الا قليله ــ أن الم وأتحدث بفيض عن تلك التجربة العظيمة التي حازت في داخلها على الكثير من العناوين والتجارب بدءا من تجربته الأولى في رواية بيت الأسرار ومرورا بالقط الذي علمني الطيران وانتهاء برواية البحار.
 
في الحقيقة إن عالم هاشم غرايبة الروائي ثري جدا وكيف لا وهو مولع بالحكي والسرد فها هو في احدى الحوارات معه يقول: حاولت أن أجمع قصص الناس عن الأشياء غير المرئية «وهو في الواقع يحمل في ابداعه الشامل من الرواية والقصة والمسرح رسالة انسانية تتجاوز النص وتضع امام المتلقي عوالما مملؤة بالدهشة ومسكونة بالسحر والجمال وهو أكثر ما ينشغل في ابداعه على الحس الانساني العميق فهو يعمل دائما وفي جميع أعماله الروائية تحديدا على هيمنة الحس الإنساني والغوص في أعماق النفس الإنسانية فيعمل على فهم العلاقات المعقدة بين الفرد والسلطة والدين والمجتمع وكثيرا ما يظهر انحيازاه الكبير للضعفاء والمقهورين والمهمشين الا أنه يظل مصرا في ابداعه على المواجهة والمقاومة والسعي الحثيث نحو التحرر الروحي والفكري قابضا على يد المتلقي لمرافقته على تجاوز وتخطي تلك الرحلة الشائكة.
 
فهو كروائي يسعى أن يكسر الحدود التقليدية للسرد من خلال توظيف لغة عالية تجمع ما بين البساطة والرمزية لأنه يريد أن يخاطب روح القارئ ووجدانه وفي كل رواياته يظل المتلقي حاضرا من خلال الخطابات المتعددة التي تعبر عنها شخصيات أعماله الروائية ولعلني هنا أنقل ما قاله الكاتب عدنان قازان هاشم غرايبة هو الكاتب الذي يجسد في نصوصه حكمة الياسمين وقوة الثورة أعماله تجارب تعاش تفتح أفاقا جديدة للفكر والوجدان إنه أديب لا يكتفي بتوثيق الواقع بل يسعى دائما الى تغييره تاركا بصمة لا تنحى في تاريخ الأدب. أما رواية البحار وهي التجربة التي لفتتني كثيرا من رواياته وهي الصادرة عن دار الأهلية عام 2018
 
بداية:
 
حين وقعت عيني على غلاف الرواية وقرأت العنوان بتمعن جاء في خاطري مباشرة رواية الروائي السوري العظيم حنا مينا «حكاية بحار» التي قرأتها في ثمانينات القرن الماضي وتأثرت بها كثيرا وقد كنت في ذاك الزمن لم تنشأ بعد العلاقة الحميمة بيني وبين البحر ولا أنكر أنها في الحقيقة وضعتني على بوابة علاقة مازلت أعيشها للآن.
 
لقد أخذني البحار في رواية هاشم غرايبة إلى عوالم أخرى بعيدة كل البعد عن بحار حنا مينه رغم التقارب الواضح بينهما فالروايتان تحكيان حكاية رجل بينه وبين لفظة البحر ارتباط كبير كلاهما مغامر جريء يروي ويسرد بطريقة أو بأخرى تلك العلاقة التي ربطته بالاسم وكل منهما له حكايته الخاصة المتفردة إلا أنهما يفترقان ويتقاطعان ويتقاربان إذ أن كل منهما بحار..
 
بحار حنا مينه يقيم في البحر وهو مكانه الأول والأساس والأثير أما بحار هاشم غرايبة فمكانه البر وقد التقى هذان البحاران في كثير من الأمور ولعل أهمها أنهما جريئان قويان يواجهان الحياة بكل قوة وصلابة فحين يقول بحار هاشم غرايبة: أنا حي ولا أخاف
 
يقول بحار حنا مينا: ليس المهم أن نخاف المهم أن نقاوم الخوف...
 
وقد أخذ الروائي هاشم غرايبة هذا العنوان او الاسم لروايته من عالم البحارة (وهم المهربون اللاجئون الذين يتنقلون بين الحدود البرية بين البلدان على أرض اليابسة) ولقد كان هذا اللقب يطلق على التجار الذين ينقلون البضائع في المنطقة الحدودية التي تقع ما بين حدود الأردن وسوريا مابين المدينة الحدودية السوريه درعا وبين المدينة الحدودية الأردنية الرمثا وكان يحلو للبعض تسميهم « تجار شنطه « وأنا شخصيا تنقلت بين سوريا والاردن كثيرا عبر معبر حدود الرمثا كون موطن إقامتي الأول كان في إربد والتقيت أثنا رحلاتي بين المعبرين درعا والرمثا بالكثيرين منهم وفعلا كان اسمهم «بحاره» ويقول البعض أن هذا الاسم اخترعه أهل الرمثا بشكل خاص
 
البحار هنا بهذه الرواية هو الرجل الرمثاوي الذي كان يتقن ثلاث لغات، اخترق الحدود البرية تلك، وقد كان ثائراً، حيّاً لا يخاف لذلك جاء العنوان متبوعا بعبارة «أنا حي ولا أخاف» وقد اراد الروائي هاشم غرايبة أن يسرد لنا سيرة هذا البحار وكما أراد أن يكشف شخصيته بكلمة واحدة تعبر عن وجوده بيننا واستمرارية وجوده على ارض الرمثا بعبارة أنا حي وكأنه يقول إن هذا البحار مازال موجودا في الرمثا للآن/ واتبعها بالفعل المسبوق بالنفي المعبر عن الرفض ولا أخاف.
 
في الصفحة 3 يقول الروائي: هذا الكتاب عمل أدبي كل الأسماء والشخصيات والأماكن الواردة في هذا الكتاب هي من نسج خيال الكاتب وأي تشابه يجمعه بأحداث واقعية أو بأشخاص موجودين أحياء كانوا أو أمواتا هو محض صدفة لا غير. فالروائي هاشم غرايبة يؤكد هنا أن سيرة هذا البحار ماهي الا سيرة من نسج الخيال رغم ارتباطها وجذورها العميقة على أرض الواقع.
 
ولا أجد بدا من أن أتوقف عند الإهداء هنا قليلا لأنه جاء دون توطئة لذلك بكلمة إهداء فجاء مبدوءً بعبارة إلى حفيدي... فهي ليست للأبن بل لأبن الأبن ويستمر من خلال العبارات التأكيد على ذلك قائلا: بعد زمن طويل سيزهر في البلاد جيل بريء وسيجد أحدهم اسم (سليم الناجي) يطفو على غير هدى في صفحات هذا الكتاب اسم غير مرتبط بجريمة متقنة أو برأسمال يجسد الثروة والسلطة أو بثورة تغير مسار التاريخ إنما مجرد شخصية بسيطة عادية معلقة في الفضاء شديدة العبثية والرقة قد تبدو رمزا لقدرة الإنسان على الحياة.
 
إن الروائي حتى في الإهداء ينتصر للإنسان وللقوة التي تقلب موازين الأشياء في أحيان كثيرة
 
تأخذنا الرواية عبر 197 صفحة الى عالم سليم الناجي لتحكي حكاية رجل من أهل الرمثا تسرد لنا قصته حين بدأ بحارا يقطع المسافات الحدودية بين الرمثا وسوريا... تحتفي بشكل متميز بالمكان والزمان والشخصيات عبر لغة سلسة جميلة حيوية قريبة جدا من وقع الحياة وخطواتها الدقيقة
 
جماليَّاتُ اللُّغة في رواية البحار
 
معروفٌ أنَّ اللُّغة في الرواية تقوم بشكل خاصٍّ على مجموعة من المقوِّمات، ولا أبالغ إن قلت: إنَّ اللُّغة قد جاءت في هذه الرواية متميِّزة سهلة، لكنَّها السَّهل الممتنع؛ إذ أبدع الروائي في التَّعامل معها، وكما هو متعارف عليه في لغة روايات هاشم غرايبة لذلك جاءت ليِّنة التَّعبير، وكشفت عن المقدرة الأدبيَّة والفكريَّة عند الروائي. ففي الفصل الأول المعنون بـ(رمثاوي) على الرصيف يقول السارد: أكتب كي أطير العصافير النزقة من رأسي... الشمس شديدة السطوع على بنايات عمان البيضاء رمشت عيني لكنهما ظلتا غير قادرتين على لملمة حركة السيارات المسرعة اتساع المكان المفاجئ يشعرني بالاختناق.
 
معروف أن اللُّغة هي الثَّوب الذي يكتسي به العمل الإبداعي، وكما هو الحال عند البشر، فقد يُصنَعُ الثَّوب من قماش مرتفع السِّعر باهظ التَّكاليف، ومع ذلك فقد تنفر منه العين ولا تتقبله، بل إنَّ الذَّوق الرَّفيع يستهجنه، وقد يكون الثَّوب بسيطاً غير مزركش ولكنَّه مقبول ترتاح له ويُسَرُّ له الخاطر، واللُّغة المثقلة بالتزاويق اللفظيَّة تُنَفِّر القارئ وتضيِّع منه المعنى الذي قد لا يكون موجوداً أصلاً، وقد جيء بهذه الألفاظ المزركشة للتَّمويه على ضعف المعنى وغياب الهدف.
 
ملامحُ اللُّغةِ السَّرديَّةِ (لغةُ الحَكيِ) في رواية البحار:
 
اللُّغة السَّرديَّة هي إحدى أدوات الكاتب الرَّئيسة في عمليَّة الكتابة واختيار الأسلوب المناسب الذي يساعد على توصيل المعنى الذي يريده الكاتب، وتهدف لغة السَّرد إلى تحويل المعلومة المباشرة أو الحدث البسيط إلى سلسلة من الأحداث المتوالية والمترابطة التي تكون في النِّهاية رواية محبوكة ومقنعة، وتشمل في الوقت ذاته كلَّ المعلومات التي يرغب الكاتب توصيلها للقارئ من خلال إطار فنِّيٍّ جميل وممتع.
 
يمكنني القول هنا إن اللُّغة السَّرديَّة لهذه الرواية جاءت عالية تتمتَّع بالشَّاعريَّة لتعبِّرَ عن حجم القضيَّة التي الكاتب طرحها والتَّعبير عنها بأسلوب السَّهل الممتنع.
 
في الفصل الثاني المعنون ب زمن الخسارات يقول السارد: أوجع الخسارات ما يقع في بيتك وبين أهلك ومحبيك ثم يكمل بتوظيف ضمير المتكلم قائلا: ولدت بين حربين عالميتين في ذلك الزمن لم يكن أحد يهتم بتسجيل المواليد الجدد ربما لأنهم غير واثقين من أن المولود سيكبر فالفقر والأمراض وهوام الأرض بالمرصاد لا يصمد أمامها الجبابرة فكيف لمولود خداج أن ينجو. في الحقيقة جاءت اللغة هنا معبرة واضحة من خلال توظيف التَّعبير بلغة السَّهل الممتنع الذي جاء من خلال اللُّغة الرَّشيقة.
 
ملامح اللُّغة الرَّشيقة في هذه الرواية:
 
لا حدث دون حركة أو تعبير؛ لذلك يجب الوضع في الاعتبار أنَّ السَّرد يجب أن يكون مفعمًا بالنَّشاط السَّرديِّ حتَّى لا يمَلَّ القارئ، ولا بدَّ من تنويع ما يحويه الإطار السَّرديُّ والانتقال من مشهد إلى آخر بسلاسة ورشاقة، بالإضافة إلى ضبط سرعة السَّرد التي تناسب الحدث وأهميَّته، وعلاوة على ذلك ينبغي على السَّارد الانتباهُ جيِّدًا إلى اللُّغة المستخدَمة في الحوار، والوعيُ بدوره المهمِّ في دفع متوالية الأحداث إلى الأمام أو تغيير مجرى مصائر الأبطال.
 
-أوَّلاً: للُّغة الشَّاعريَّة المعبِّرة:
 
لقد عبَّر الروائي بلغة شعرية فيها من المجاز والصُّوَر الشِّعريَّة والتَّشبيهاتِ والاشتقاقات المبتَكَرة الكثيرة، فها هو السارد يقول في ص 34: كانت الشمس تلم بقايا أشعتها عن سطوح المنازل وكان علي أن أقطع الوادي الموحش وكان في الحارة الغربية أطفال عدوانيون حيال كل قادم من الحارة الشرقية.. نجد هنا أنَّ اللُّغة جاءت رشيقة، تميَّزت بسرعة السَّرد للتَّعبير عن الحدث وأهميَّته.
 
-ثانيا: برزت اللُّغة الرَّشيقة كذلك من خلال الحوار الذي يؤدّى هو الأخر بدوره إلى دفعِ متوالية الأحداث إلى الأمام، أو تغييرِ مجرى مصائر الأبطال أحياناً. فها هو السارد ينقل لنا الحوار في الفصل الخامس قلت لهم: لقد صرت جنديا مستجدا في الجيش هروبا من حياة الفقر التي عشتها فمن ماذا هرب حبيبي وقرة عيني أحمد؟ هل أقنعه من جنده أن السماء أرسلت له نداء فلبى النداء.
 
تصدى لي أبو علاء الجمركي قال وهو يعد حصى المنقلة: هو لم يهرب يا ختيار أحمد هاجر في سبيل الله يا رجل أحمد كان ضالا فاهتدى لك أن تفتخر به وقفت غاضبا: يا سلام حتى أنت يا مخشرم الوجه صاير مفتي أرسل أبناءك هناك وافخر بهم كما شئت..
 
لقد برزت سرديَّة اللُّغة هنا رشيقة من خلال الحوار، وجاءت تتمتَّع بالمرونة والعفوية، وتتلاءم مع الشَّخصيَّة بمواقفها وطريقة تفكيرها وثقافتها. ولقد اعتمد الروائي في توظيف الحوار في هذه الرواية وبشكل متناسق متساو متوازن على الحوار الخارجي والحوار الداخلي في الكثير من الوقت.