عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    18-Jul-2025

"سوبرمان" بين الخيال وواقع غزة.. كيف أثار الجدل؟

 الغد-إسراء الردايدة

 أطلق المخرج جيمس غن فيلم "سوبرمان" الجديد في يوليو 2025 وسط جدل واسع حول رمزيته السياسية. إذ تتوالى التقارير عن لقطات تصوِّر دولة بورافيا الغازية التي تشن هجومًا على جارتها الفقيرة جهرانبور، في مشاهد تذكر الجمهور بجرائم الاحتلال الإسرائيلي في غزة.
 
 
ووصف المخرج جيمس غن شخصية سوبرمان بأنه "مهاجر"، ما أثار انتقادات من اليمين الأميركي وادعاءات بأن الفيلم "متطرف أيديولوجيًا"، ومن أبرز المنتقدين ديان كين (Dean Cain) وكيلان كونواي على شبكات فوكس نيوز، اللذين اعتبرا الربط بين سوبرمان والهجرة تضخيمًا مبالغًا فيه لقيم أميركية مفترضة.
 
وقد اعتبر كثير من المتابعين أن الفيلم يحمل تلميحات واضحة للحرب في غزة، إذ تشير إلى أن أحداث الفيلم تجري في بورافيا –حليفة أميركية– تُشبه في تصويرها الاحتلال، بينما يظهر سكان جهرانبور معزولين خلف جدار حدودي محكم ومحاصرين بقصف عسكري، مما استحضر مشاهد من الواقع الفلسطيني في المقابل، نفى غن رسميًا أي ارتباط للسيناريو بالشرق الأوسط، مؤكدًا أن القصة خيالية بالكامل وتركت العالم السياسي بعيدًا عن الإشارة المباشرة للصراع الحقيقي. 
وقال غن في مقابلة مع صحيفةThe Times of London قبل صدور الفيلم، أنه صاغ السيناريو قبل اندلاع الصراع الأحدث في الشرق الأوسط، قائلاً:"عندما كتبت هذا، لم يكن الصراع في الشرق الأوسط قائمًا. حاولت أن أبعد الأحداث عن ذلك، لكن القصة خيالية بالكامل؛ هي عن غزو دولة قوية يحكمها طاغية لدولة أخرى "مشكلة سياسيًا" لا تملك دفاعًا. ليس لها أي علاقة بالشرق الأوسط".
وأضاف غن أن فيلم "سوبرمان" يركز في جوهره على "السياسة" و"الأخلاق"، ويُقدّم شخصية سوبرمان باعتباره "مهاجرًا" يكافح من أجل إنقاذ الأبرياء بعيدًا عن أي ولاءات وطنية ضيقة.
المشاهد الرمزية 
والتصوير السينمائي 
في العديد من المشاهد الحرجة، يعتمد الفيلم على تصوير بصري قوي يعزِّز الرمزية السياسية للأحداث. فقد رُسمت دولة بورافيا كقوة عسكرية متقدمة مسلحة بدبابات وطائرات مسيّرة، بينما يظهر شعب جهرانبور مدجَّجًا بالعصي والحجارة، بل وحتى بشروا حاملين أعلامًا منزلية مزيفة للاعب الخارق (تحمل شعار سوبرمان) في استجداء الحماية. 
المخرج جيمس غن التقط بوضوح هذه الفوارق: فبورافيا تظهر بيضاء البشرة، يتحدث زعماؤها بالروسية ولباسهم غربي عصري، في حين طُوِّر سكان جهرانبور لتبدو أصولهم وسطية أو آسيوية أو أفريقية. 
يظهر شعار سوبرمان بشكل بارز في الفيلم كرمز للأمل والإنسانية. فالتكوين اللوني في المشاهد الحاسمة غالبًا ما يضفي دفئًا على البطل الخارق: الألوان الزرقاء والحمراء الزاهية تهيمن على زيِّه، وتُسلَّط عليه إضاءة شمسية مشرقة تعكس تفاؤله. 
تلاحظ صحيفة النيويوركر 
أن رؤية غن السينمائية  لـ"سوبرمان" تسير عكس تيار السلسلة السابقة، فهي "مشرقة ومتفائلة وعاطفية" كما لو جاءت من "قصة شروق شمس"، وهذه الإضاءة الساطعة تُخالف أجواء الحروب القاتمة في الواقع، لكنها تجعل الأمل مضيئًا وسط الخراب الدائري. 
ثمة مشاهد ذات إيحاءات رمزية بارزة تقرِّب الفيلم من الواقع الفلسطيني، من ذلك، مشهد الحدود والحصار حيث يقف المدنيون الجهرانبوريون حائلين بين أسوار مرتفعة ورصاص بورافي، رافعين أعلامًا بدائية يحلمون أن يحميهم سوبرمان. هذه الصورة توحي بمسيرات العودة الكبرى، حيث احتشد المئات من أبناء غزة قرب السياج الحدودي حاملين الأعلام واللافتات السلمية مواجهة لقوات الاحتلال. 
وقد لاحظ متابعون أن المشهد (نساء ورجال وأطفال يسيرون حاملين الهراوات والأعلام) يكاد يطابق صور مسيرات العودة عام 2018 في غزة. كذلك تظهر في الفيلم مشاهد القصف والاعتقال الجماعي، فقد أعاد المشهد الذي تهاجم فيه طائرات بورافية أهدافًا مدنية، وينتهي بإحكام إغلاق الحدود، إلى الأذهان حصار غزة المستمر. 
وتشير تغريدة في صحيفة تريبيون إلى أن المشاهد الفنية عبّرت عن "تعاطف واضح مع المدنيين المظلومين، ولا سيما الأطفال تحت الحصار". 
ويصوّر الفيلم غزو بورافيا العسكري بقوات مدجَّجة بأسلحة ثقيلة تقتحم أراضي جهرانبور، في مقابل مدنيين فقراء لا يملكون دفاعًا سوى أدواتهم البسيطة وأمتعتهم، فيما تتجلّى المقاومة المدنية في تجمع حشود جهرانبورية عند الحدود، يحملون شعارات يدوية وصور سوبرمان طمعًا في لفت الأنظار سلمياً.
بينما يفصل السياج الحدودي الصارم بين الطرفين، ويظهر المدنيون ممن يُقيّدون في حدود حاجزٍ حديديٍّ محاصرٍ، ما يذكر بحصار غزة الفعلي في مساحة ضيقة تحت وطأة القصف والقيود الإنسانية. وتسمح لوحات الألوان المستخدمة في المشاهد بفهمٍ بصريٍّ ضمنيٍّ: فملابس الجنود الكحلية توحي بالقوة والصرامة، أما أزياء وأعلام جهرانبور المبهتة فتعكس الفقر والقهر، فتبرز الهوية العرقية والحالة السياسية بسردٍ بصريٍّ مباشر.
ويعتمد الفيلم على تصويرٍ بصريٍ مقصود: الأبطال "البيض" يواجهون "الملونين" المدافعين عن وطنهم الموجوع. وصاغ غن هذه الصورة بعناية لتضفي تعاطفًا عاطفيًّا لدى المشاهدين، ومن خلال زاوية الكاميرا والإضاءة والتكوين، يشعر المشاهد في لحظات كثيرة بأنه يشاهد استحضارًا دراميًّا لصور حقيقية من غزة، رغم ادعاء صانعي الفيلم بعدم التعمّد ذلك.
التصريحات وردود الفعل السياسية
على الرغم من الدلالات اللافتة، كرّر المخرج جيمس غن في مقابلاته أنه لم يكن يربط العمل بالأحداث التي تدور في غزة بين الاحتلال الإسرائيلي والفلسطنيين. فقد أوضح غن أن "القصة خيالية بالكامل" وأنه كتب السيناريو قبل اندلاع الصراع الأحدث في أكتوبر 2023، لذا "عندما كتبت هذا لم يكن الصراع في الشرق الأوسط يحدث. حاولتُ أن أبعده عن ذلك لكن القصة ليس لها علاقة بالشرق الأوسط". 
ومع ذلك فإن هذه التصريحات الرسمية لم تطفئ الجدل؛ فالفيلم يحمل حدًا أدنى من السياسة المتعمدة مثل السؤال الأخلاقي المطروح بين سوبرمان ولويس لين عن متى يمكن توقّف سفك الدماء.
وتباينت الردود السياسية بين النقيضين. على الجهة اليسارية، اعتبر الناشط الأميركي حسن بيكر أن شخصية زعيم بورافيا مُستلهمة من بن غوريون أو نتنياهو، واصفًا الفيلم بـ "ساعتين وعشر دقائق من إدانة صريحة لإسرائيل". وفي بث مباشر عبر "تويتش" وصف الفيلم بأنه تجسيد أخلاقي لحالة "قوة محتلة وشعب مستضعف". أما اليوتيوبر اليميني بن شابيرو، فذهب إلى النقيض فقال إن اعتبار الفيلم تعليقًا على غزة يعود فقط لـ"عقول يسارية"، مؤكّدًا أن الأحداث لا تتطابق مع وقائع الحرب الحقيقية في غزة وأن الفيلم ليس له رسالة سياسية. 
هذه المعركة الكلامية بين بيكر وشابيرو اتسعت عبر منصات التواصل؛ حيث نشر شابيرو مقطعًا يستخفّ فيه بتأويلات مناهضة لإسرائيل، ثم علق غن لاحقًا بأنه فخور بتقديم قصة تُبيِّن إنسانية سوبرمان وتعاطفه مع الضُعفاء.
في المقابل، أعرب مسؤولون إسرائيليون عن غضبهم. فقد نشرت القنصلية الإسرائيلية بلوس أنجلوس حملات دعائية وصورًا لجنود إسرائيليين وهم يُصوَّرون كـ"أبطال حقيقيين"، في محاولة لردّ الصاع صاعين. وفي وسائل الإعلام الغربية والعبرية، تولّد هاشتاغات مثل #RealHeroes للتشديد على البطولة الإسرائيلية. هذا الرد الرسمي قابلته تغريدات ساخرة كثيرة، منها ما لخص موقف المغردين قائلاً: "إسرائيل غاضبة لأن سوبرمان لم يقف إلى جانبها، فقررت صنع فيلمها الدعائي الخاص".
أما على صعيد الجماهير والمراجعات، فقد انفجرت تعليقات متناقضة، وبدت تعليقات على تويتر ومواقع أخرى حماسية من مناصري الفلسطينيين، معتبرين أن سوبرمان وقف بوضوح إلى جانب المدافعين الأبرياء، وأن الفيلم هو "أكثر إنتاج هوليوودي داعم لفلسطين شهدناه"،  بينما طالب مؤيدو إسرائيل بعدم تحميل الفيلم مواقف سياسية، قائلين إن استخدام شخصية سوبرمان (خلقها فنّانون يهود) للحديث ضد إسرائيل هو "إساءة غير مقبولة". وكتب أحد مستخدمي رديت بأن انتقاداتهم تستهدف "وجهة النظر فقط"، فيما أكد آخر أن ردة الفعل القوية تؤكد إدراك الجماهير أنفسهم أن الفيلم صورهم كـ"الأشرار" دون تسميتهم.
التناقض بين النفي الرسمي والتأويل الشعبي
يبقى المشهد العام متضادًا: فالنفي الرسمي لو صحّ عن قصد كمناورات مقابل قراءة جماهيرية تربطه فورًا بالواقع. حتى صحيفة وول ستريت جورنال أشارت إلى أن الفيلم "لم يكن محاولة للتعليق على الشرق الأوسط"، لكن الجدل اكتسب حياة خاصة به. تلخص صحيفة وول ستريت جورنال الأميركية (منبر محافظ) الموقف قائلة إن الفيلم "يثير جدلًا على الإنترنت" بالفعل: فقد نُشر قبل العرض شريط دعائي يسرد الفيلم بأنه عن بلدين خياليين، لكن الجمهور المبكر أحاط الحدث بنظريات تضامنية مع الفلسطينيين.
من ناحية أخرى،  فإن السياق مهم، فحتى لو لم يقصد غن نقل الواقع حرفيًا، فإن الفيلم "صار جزءًا من اللحظة الثقافية" الراهنة. يؤكد تحليليون أن الفيلم طرح قيمة سوبرمان الإنسانية في الوقت الذي ينتظر فيه الناس خارقًا أبيض ينقذهم، ما يعكس الانشغالات الاجتماعية الراهنة. 
السينما والواقع
يبقى السؤال: إلى أي مدى تعكس السينما الواقع السياسي، وإلى أي مدى تتجنّب نقله مباشرة؟ يُختتم الجدل الحالي عند هذه الفجوة. ففي عالم تزدحم فيه السرديات السياسية في كل مكان، يناقش فيلم "سوبرمان" الدور الأخلاقي للأبطال الخارقين في زمن الخطيئة الجماعية. 
يعترف جيمس غن بإنه ركز على "رحمة سوبرمان وتضامنه مع الضعفاء"، ولم يهدف للانحياز لطرف دون الآخر. لكن الجمهور العربي والغربي على حد سواء عكس أفكاره الخاصة في الفيلم، وربط أحدهم بين ما شاهده والأحداث الجارية في غزة، معتبرين أن هذه القراءة دليل على "حنكة ثقافية جديدة" وصعود صوت مناهض للحرب من قلب صناعة عملاقة.
في المحصلة، يعكس الجدل المحيط بفيلم "سوبرمان" حالةً مثيرة في السينما المعاصرة: ففي حين تفضّل بعض الأفلام الزهد السياسي، تظل أفلامًا أخرى مثل هذه محط اهتمام ناقد وسياسي لا يلتفت فيه أحد. كما يترك الفيلم النهاية مفتوحة أمام تأويلات المشاهدين: فسواء كان تعمُّدًا أم صدفة، فقد نجح في إشعال نقاش عالمي حول قضية إنسانية ملتهبة تذكّرنا "سوبرمان" بأن البطل الخارق، مهما علا شأنه في الخيال، لا يمكنه الفرار من مراقبة الواقع، وأنَ السينما بطبيعتها قد تصبح مرآةً لأسوأ ما يحدث في العالم، حتى وإن حاولت الابتعاد عنه.